TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > الكاتب رساماً

الكاتب رساماً

نشر في: 26 فبراير, 2010: 06:53 م

(وقتها كان الصبح يلقي بأشعته السنبلية لتلج غرفة الصف عبر النافذة.. وقف أمام التلاميذ رأى فيهم قامة الوطن.. نظر إليهم مُتأملاً وقال: ارسموا تفاحة.. أُخذَ بضوء الشمس فرأى الحقيقة.. تحول الوطن إلى خيام.. تتبعها.. أبصر ما يجب أن يبصر. استدرك، قال بأعلى صوته..
لا.. لا ترسموا تفاحة.. اخفض من وتيرة صوته.. بل ارسموا خيمة.. ومنذ تلك اللحظة رسم الخيمة.. الثورة.. تعاقبت السنون عليه فرسم للوطن.. الشعب والأرض.. آخر رسم له كان بدمه.. رسم حدود الوطن.. حدود الفصل بين هابيل وقابيل.. كان من دمه لدمه). هكذا غسان كنفاني يصارع عدوه.. يحرّض أنامل الأطفال وأقلامهم.. دفاترهم والألوان.. يحرك وجدانهم وعقولهم.. يشحذ الهمم للعودة لأرض الآباء والأجداد. رسم لهم ليرسموا معه ليس الطريق إلي عكا وحسب بل إلى حيفا ويافا والقدس وغزة إلى الخليل والناصرة وأريحا وبيت لحم. ربما يظن بعض أنني أنشئ نصاً أدبياً ذلك لعدم علمه بأن غسان كنفاني فنانٌ تشكيليٌ وله أعماله التي تداني أل ست وثلاثين عملاً زيتياً وملوناً أما الأعمال التي أنجزها بالفحم أو بتقنيات اخرى مثل قلم الرصاص والحبر فكثيرة حيث كان ينشرها بمحاذاة النص القصصي أو القصيدة في النشرة المُلحقة لصحيفة المحرر أيام الستينات عندما كان يعمل فيها وأعماله بالكامل ذات مضامين ثورية ووطنية ترتكز على اصول فكرية ذات نزعة وطنية حقيقية ببعد أممي وبرؤيا ثورية تعتمد على قوي طبقة البروليتاريا، والرثة منها تلك التي تمثل جل الشعب الفلسطيني القابع في خيام التشريد المبعثرة في عدد من الدول العربية وخاصة ما أُطلق علىها دول الطوق وفي ما بعد دول المواجهة. لذا كانت عناصر لوحاته مُستمدة من الواقع فتراه أكثر من رسم قبة الصخرة كرمز لفلسطين ذلك أيام كان ما زال طالباً رسم حيثما وقعت يده ونالت من ورق لا يشغله كلام أو صورة أو رسم والحصان كرمز للثورة وأما الوجوه فقد انتقاها من الوسط المحيط به والمألوف لديه وبتماس مباشر معه تماماً مثلما انتقي شخصيات نصوصه القصصية. لقد اختزل غسان كنفاني مراحل التاريخ خلال سنوات عمره القصير الذي مكثه في الأرض متنقلاً بين عدد من الأقطار حتى استقر به المقام ليكون شهيداً في بيروت أعقاب عملية غدر صهيونية غادر هذه الدنيا التي وصفها فأحسن وصفها ليس قولاً في رواياته وقصصه وما كتب من المقالات وما خط من المسرحيات وإنما هو ابتدأ كبدائي فعبر عن معاناته ومعاناة شعبه مُفرغاً ما حمل من همٍ ورؤيا وفكر على سطوح بيضاء لتكون لوحات يُحاكي من خلالها الآخرين.غزاه عدوان الصهيونية والمرض ورغماً عنهما غذي عقول تلاميذه بما يحمل من زاد الوطن الذي أقصي عنه وهو ابن اثني عشر شتاءً تعصف بالويلات والأزمات والنكبات. غسان الذات.. ما حيي لذاته أبداً وإنما كرس حياته للمقهورين المشردين من أبناء شعبه والشعوب الاخرى. فصنع من الذات الخاصة الى عام فبلور تلك العامة فخرج بمجمل مفاهيم هي أشبه بنظرية نضالية منطلقها ومبتداها الواقع الأليم الذي يحياه الإنسان والرغبة العارمة لتغيير الواقع والانطلاق الى ما هو افضل. فقد أعمل ريشته ذات الحس المرهف فكتب اسم وطنه (فلسطين) فداخل العلم مع خريطة الوطن المستلب وربط الحروف بعضها ببعض بزركشات منمنمة من التراث الشعبي الفلسطيني مؤلفا بذلك بين الشمال والجنوب وبين الساحل و الجبل ومواصلاً بين البحر والنهر مستخدماً في ذلك العمل الألوان الإعلانية لكون عناصر اللوحة هي عبارة عن وحدات ذات ألوان نقية (وحدات زخرفية شعبية وعلم مُتضمن في خارطة ليكون رمزها بالكامل). فكان لهذا العمل موقع الصدارة بين ملصقات الثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها وحتى يومنا هذا. أما الثانية فهي لوحة الحصان والبردة. المُهر الذي يمثل الثورة الفتيّة دوماً.. وهو شامخ راقص بعنفوان وكبرياء يوحي بخفة حركته وحركة شعر رقبته وذيله الذي حركته بنان غسان فجعلته على هيئة نار تتأجج وما يزيد في الاضطرام حركة الحصان الموحية بالطيران فيطبع في النفس إيحاء لاشعورياً بفكرة البراق. وخاصة عندما يتعامل النظر مع اللون الحنّائي للحصان ولون البردة الخضراء التي وشح بها وقد جُملت بالزخارف العربية التي تمثل المرتكز الأساس لأنها تعبر عن الأصالة التي هي بمثابة الزاد للأديب والمفكر والفنان والثائر. أما اللوحة التي قد أُجيز لنفسي أن أسميها كما سميت سابقتيها (نساء النكبة) ذلك لأنها ذات ألوان داكنة مائلة للسواد إلا من بعض البياض الذي جاء من خلال لباس الرأس للنسوة اللاتي جعل منهن عناصر للوحته المعبرة كل التعبير عن النكبة وذلك من أجواء اللوحة العامة ألواناً وخطوط وقسمات الوجوه البائسة جراء ظلمة التشريد وسنين الحرمان وحركة الأجسام المكونة لـ(اللوحة). ولوحة من المدرسة الواقعية تُنجزها ريشته التي تعكس ما يختلج في أعماقه من أمواج، يُضرم بحر الوجد يُسعّره شوقاً للوطن وحنيناً له فتنطلق تلك الدفائن الداخلية لتطفو على المحيا فترسم بريشته لتتجسد كحركة من أعضاء الجسد أو ملامح تعمر الوجه لتنبئ عن مقدار الشقاء والحرمان ومرارة التشرد.. الأسي والحزن على الوطن.. فكانت لوحة أفرغ فيها هذه المعاني على هيئة رجل يرتدي قمبازاً بلون بني داكن ذلك ليجعل من اللون وسيلة فعالة من و

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالحوارِ أم بـ"قواتِ النخبة".. كيف تمنعُ بغدادُ الفصائلَ من تنفيذِ المخططِ الإسرائيلي؟

تحديات بيئية في بغداد بسبب انتشار النفايات

العراق بحاجة لتحسين بيئته الاستثمارية لجلب شركات عالمية

الكشف عن تورط شبكة بتجارة الأعضاء البشرية

مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram