عيد عبد الحليم عندما أراد الكاتب العالمي "جابرييل جارثيا ماركيز" أن يكتب سيرته الذاتية أختار لها عنوانا دالاً على رحلة طويلة من المعاناة اللذيذة في دنيا السرد وهو "عشت لأحكي" فجاءت شهادة واقعية لتاريخ أدبي خاص ،وقد صدرها بعبارة أكثر دلالة على تجربة الرواية بشكل عام وهى
"الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره وكيف يتذكره ليرويه". وقد شهد السرد العربي مجموعة من الحكائين الكبار خلال القرن العشرين ،الذين لمسوا العصب العارى للكتابة من خلال العزف على "أنشودة البساطة" ،والتماس الحكاية من طين الأرض وناسها الطيبين. ولعل تجربة " إبراهيم اصلان" جاءت كامتداد طبيعي لما أسسه " يحيى حقي" من ضرورة وجود لغة وسطى تربط بين اللحظة السردية وشريانها الواقعي ، وإن تمايزت بكثافة الرؤية، وتنقية اللغة من معجمها المتعارف عليه ، ليخلق من تشظيها حالة درامية تتسم بالتعمق في اللحظة الآنية ،مع طرح شرطها التاريخي، دون تدخل منه كراو للحدث داخل بنية الحدث نفسه، بل يترك للفعل السردي رحابة فى طرح متخيله ، دون أن يبوح بكونه راوياً عليماً رغم درايته الكاملة بما يكتب ومعرفته التامة عمن يكتب. كتابة " أصلان" تشترط في قارئها أن يكون نقي الروح والقلب حتى يستطيع تلمس المعطيات الإنسانية العميقة التي تطرحها الكتابة. وهو –من وجهة نظري- من أسهل الكتاب المصريين في القراءة واكثرهم اندماجاً مع شخصياته التي يكتب عنها،فهو يمارس الكتابة كفعل يومي،من خلال معايشة حية، وهذا ما أكسب رؤيته مرونة ربما لم تتوفر لسواه. هو لاعب "يوجا" باقتدار، يتأمل ليستشف الحكمة من مكمنها ، فيؤرخ للمهمشين بعبارة واحدة ،باستطاعته أن يختصر التاريخ في قصة قصيرة. أن يعبر عن علاقات متشابكة في جملة سردية لا تتعدى سطراً واحداً ، ربما يرى البعض أنه يكتب من منطق بلاغي هو "الإيجاز بالحذف" ، وأرى أنه بناء قدير ، أشبه بمثال فرعوني- في يده إزميل بسيط لكنه قادر على استنطاق الحجر، لتتوالد صور مبهرة ، يزيدها الزمان صلابة وقوة وجمالا وتماسكاً. هو "سوريالي" بارع، يحس بموسيقى الأشياء التي تنسكب على الورق انسكاباً ، فكل إنتاجه –القليل- بالمقارنة بأبناء جيله ، وبالمقارنة برحلته الطويلة مع القلم والتي استمرت لأكثر من أربعين عاما يمثل حلقة فريدة من خصوصية الكتابة العربية بداية من مجموعته القصصية "يوسف والرداء" مروراً بأعماله "مالك الحزين" و"وردية ليل" و"عصافير النيل" و"خلوة الغلبان" و"حكايات من فضل الله عثمان". ربما تمضي سنوات طويلة ولا يكتب أصلان قصة واحدة ،لكنه في لحظة ما يخرج علينا بقصة عن" فضل الله عثمان" المكان الذي عاش فيه بمدينة إمبابة، فيأخذك إلى سحر المكان، بناسه وبساطته ، ولعل فيلم"الكيت كات" المأخوذ عن رواية "مالك الحزين" أول لقاء سينمائي بين الفن السابع وأدب أصلان يعطينا صورة تقريبية لرؤية هذ الكاتب المنغمس في التفاصيل الدقيقة، في محاولة لتنقية الروح الإنسانية من هزائمها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية إلخ.. ،أو على حد تعبير"أصلان" في إحدى شهاداته الإبداعية:"نحن عندما نكتب ، لا نكتب من أجل كل هذه الهموم التي لا يمكن كتابتها ، والتي هي رغم غيابها الظاهر ، هي الطاقة الوحيدة التي تملأ فضاء هذه المشاهد الصغيرة، إنها موجودة فى المساحة الغائرة بين الحكمة والكلمة ، بين المقعد والفراش ، بين الشجرة ورقعة السماء والرصيف، موجودة بيني وبينكم". لقد أثبت إبراهيم أصلان "موظف التلغراف البسيط" الذي تحول إلى روائي كبير، حاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2004 ، أن البسطاء ما زالوا قادرين على إثارة الدهشة، وأن الطيبين المتوحدين مع اللحظة المؤمنين بحق الإنسان في الحياة ، باستطاعتهم أن يطلقوا العصافير لتنقي السماء من دخان الأزمنة الرمادية.
وجوه في القلب:المواطن "أصلان"
نشر في: 27 فبراير, 2010: 05:05 م