توفيق الحكيمفن الموسيقى في مصر كما عرفناه منذ ثلاثين سنة كان لمع في سمائه ثلاثة نجوم داود حسني وسيد درويش وكامل الخلعي. ولم تكن معرفتي وثيقة بسيد درويش ولكن رواية غنائية لي عرضت عليه فطلب في تلحينها ستمائة من الجنيهات فرأت الجوقة انه قد سأل شططا فسحبتها منه وعهدت بها الى كامل الخلعي الذي رضى بثلاثين.
على أننا كنا نعيش في ذلك الجو الفني العجيب الذي استطاع أن يخلقه سيد درويش كنا نتتبع آثاره الجديدة في كل مكان ونعرف أحداث ألحانه قبل أن تذاع من فمه أو أفواه من التقطوها عنه في ليلة من ليالي وحيه المنهجر.على أني في ذلك الوقت كنت أكثر احتفاء بما يخرجه هذا الموسيقي المجدد في النوع الجاد من الأوبرا والأوبريت وانه لمن المحزن أن ترى الجيل الجديد يصغي الى هذا الكلام دهشاً لا يتصور كيف أزدهر هذا اللون من الموسيقى في الماضي ومات في الحاضر.كانت أغان سيد درويش وألحانه الشعبية تسري في الناس كالنار في الهشيم ولكني ما كنت أرى منه أن هذا هو الذي يملؤه بالفخر، لقد كان تواقاً الى الفن في صورته العليا وأنه لعجيب أن يكون لمثل سيد درويش بثقافته البسيطة صورة عليا للفن أتراها غريزة الفنان الأصيل تدعمه الى البحث والغوص فيها وراء السهل والضحل من أشكال الفن، ربما كان الأمر كذلك فسيد درويش لم يكن بالفنان الذي يكتفي بالإلهام ويقعد عن التحصيل.لقد رأيت سيد درويش بعيني يأتي معنا الى تياترو البكورسال ليشاهد جوقة الأوبرا الإيطالية تعرض توسكا ومدام بتر فلاى ليوتشني والبلياتشو لليون كافللو، فقد كانت دار الأوبرا في ذلك الوقت ترفاً يستطيعه سائحونا ولا تطيقه جيوشنا وكان المسيو دالباني صاحب الكورسال باراً بالفقراء أمثالنا من مجانين الفن، فكان يستقدم لنا فرقا متواضعة تغذينا وتعلمنا بقليل من النفقة، ما من شك عندي في أن سيد درويش كان يرى من أسرار هذا الفن الاوروبي أكثر مما كنا نرى وكان ينتفع ويتمثل ويهضم أضعاف ما كان يتهيأ لمثل بنيتنا الفنية العادية. وكان من أثر ذلك أن طمع في أن يصل بفنه الى مرحلة التجرد الأعلى، التجرد من الشعبية والصور المحلية وأن يقدم موسيقى موسوعة بطابعه وحده لا طابع بيئته بالذات، فقال المرحوم محمود مراد عندما قد إليه رواية "البروكة" ممصرة عن الرواية الفرنسية "لاما سكوت" أنه لا يردها في صورة مصرية ولا شرقية ولكنه يريدها على أصلها بجوها الفرنجي وأشخاصها الأروبيين لأنه مقدم على محاولة جريئة لن يحيد عنها، أنه يريد أن يفرض موسيقاه بطابعها الخاص على ذلك الجو الفني الأجنبي.وتم له ما أراد وأخرج هذه الرواية بفرقته الخاصة التي كان أنشأها أخيراً وأستأجر لها مسرح دار التمثيل العربي الذي كان مجاوراً لشارع "وجه البركة)، ولا أنسى أبداً تلك الليلة التي ظهرت فيها البروكة لأول مرة، كانت ليلة أنهمر فيها المطر ورعدت السماء وأمتلأت شوارع القاهرة بالوحل والماء ولكننا نحن أنصار سيد درويش ومحبيه وأخوانه ما كنا نشعر قط بما فعلته الطبيعة من حولنا، أننا نعرف أن الطبيعة عدو الفنان لأنها تغار منه وتعده منافساً لها في الإبداع وماذا يهم لو أن السماء أنطبقت على الأرض في تلك الليلة لما فطنا الى ما يجري، فحبنا للفن كان أقوى من الطبيعة ذاتها ورفع الستار عن البروكة أمام عدد من النظارة لا يزيد على الأربعين أو الخمسين بما فيهم الأنصار والأصدقاء وجرت الألحان تصور مختلف المناظر والمواقف والعواطف من نشيد الجنود الظافرة مثل لحن "إملأ الكاسات" الى قوله "الاحتفال بالانتصار".. الخ الى وصف الريف بدجاجه وخرافه التي تصيح ماء ماء في لحن (أحب خرفاني السمان).. الخ، وغيرها من الألحان التي لا تسعفني الذاكرة الساعة بحصرها.خرجنا من تلك الرواية في شبه ذهول وكان الليل قد أنتصف ولكننا لم نذهب الى بيوتنا أو نأو الى فراشنا فذاك عهد ولى ما كنا نعرف فيه المضاجع قبل الفجر.جلسنا في قهوة أو على الأصح خمارة مجاورة لدار التمثيل العربي وما لبث سيد درويش أن أقبل علينا مع الصديق المرحوم عمر وصفي وقد نفض عنه ثياب التمثيل وهو يقول: "ما رأيكم"؟ لم يخطر في بال الفنان المسكين أن يسألنا عن رأينا في كساد الحفلة وخواء الصالة ولا خطر في بالنا أن يسألنا في ذلك فقد كنا ندرك أن الرأي المطلوب هو أجل من ذلك عنده وأسمى، الا لأنه كان يريد الأفلاس أو يكره المال، بل لأن فرحة الفنان بفنه تبهره أكثر مما يبهره المال وأن النشوة التي تبعثها خمرة الفن تذهب دائماً بلب الفنان في أول الأمر فتذهله عن كل شيء، أدركنا ما يريد فقلنا لست أذكر والله ما قلنا، ولكن الذي لاشك فيه قد حدث هو أنه قرأ في وجوهنا الجواب أنه قد انتصر.وفي اليوم التالي قابلت زميليه كامل الخلعي وداود حسني وأبديت لهما ما خامرني من تلك الرواية الرائعة، فهز كل منهما رأسه هزة أعرف مغزاها، كانا هما من أنصار القديم أو على الأقل كانا فيما يبدعان من فن شرقي جيد مكين يسيران في التجديد بحذر واحتياط، لذلك كان لهما في سيد درويش رأي أنه في عرفها ملحن خارج على القواعد والأصول والمعقول والمنقول وتلك هي التهمة الأبدية لكل مجدد جريء.على اني لا اعتقد ان سيد درويش، كان يعتمد التجديد قهراً أو افتعالاً ولم اسمعه يتحدث في ذلك، كما يتحد
كان يرى الفن اكثر مما نراه..سيد درويش وأسرار الفن
نشر في: 12 مارس, 2010: 06:55 م