بقلم يوسف حلميأن الحقيقة التي ينعقد لديها إجماع الناس حتى خصوم سيد درويش ان هذا الرجل قد أحدث ثورة كاملة وهائلة في موسيقانا وأنزل الستار نهائياً على عهد مضى ولن يعود فتح أمامها آفاقاً جديدة غير ذات حدود.يقول الدكتور حسين فوزي وهو يتحدث عن سيد درويش:
- وقد يسألني شباب الجيل الحاضر عن مدى التجديد الذي أحدثه سيد درويش في الموسيقى فلا أعرف أين أبدأ والى أين انتهي، لأن جميع ما نسمعه اليوم من الموسيقى المصرية هو أثر من آثار سيد درويش في التجديد، والموسيقى المصرية مازالت في الطريق الذي رسمه.اما أنا فإني أزعم إني أعرف من أين أبدأ وأن كنت لا أعرف الى أين أنتهي فالثورة الموسيقية التي أحدثها سيد درويش تبدأ من هنا: قبل سيد درويش كانت موسيقانا "تتسلطن" على التخت ولم يكن يتجاسر على الغناء الا جبابرة الصوت الرخيم وأصحاب الحنجرة الذهبية مثل عبده الحمولي وألمظ وعبد الحي حلمي ومحمد عثمان وسلامة حجازي، أما بعد سيد درويش فقد أصبح كل الشعب يغني.وهذا هو مفترق الطرق بين الماضي الذي ولى نهائياً وانزل سيد درويش عليه الستار وبين المستقبل المشرق الذي فتح العبقري الجسور أبوابه على مصاريعها.ان موسيقانا قبل سيد درويش كانت خليطاً من الأنغام التركية والفارسية في إطار عربي مذهب، وكانت فناً سجينا في القصور مخصصاً للزينة ولتسلية السادة وملء فراغهم الطويل ولإدخال البهجة على نفوس الحريم، ولذلك كان من الطبيعي ان تتوطن في ذلك السجن لتخدم أغراض البيئة الاجتماعية التي تعيش فيهاـ أي عالم الحريم، ولذلك ظلت الموسيقى في بلادنا سواء من حيث شكلها أم من حيث مضمونها أبهد ما تكون عن الشعب أبعد ما تكون عن آذانه وأبعد ما تكون عن التعبير عن حياته، ان السيد درويش حين بدأ يؤلف الموسيقى ثار على السجن العتيق (وحطم السلاسل التي كانت تربط ذاك الفن العظيم الى عالم الحريم وأنطلق به الى صميم الحياة.. حياة السواد الأعظم من بسطاء الناس ليعبر عنهم ويبهجهم ويزرع فيهم الأمل والثقة).ويقول توفيق الحكيم في كتابه "فن الأدب" وهو يتحدث عن الموسيقى في مصر في سنوات الثورة:" على اننا كنا نعيش في ذلك الجو الفني العجيب الذي استطاع أن يخلقه سيد درويش، كنا نتتبع أثاره الجسيمة في كل مكان ونعرف أحدث ألحانه قبل أن تذاع من فمه أو أفواه من التقطوها عنه في ليلة من ليالي وحيه المنهمر، وكانت أغاني سيد درويش وألحانه الشعبية تسري في الناس كالنار في الهشيم".وكذلك يقول حسين فوزي في الحديث نفسه الذي أشرنا اليه فيما سبق أنه ورفاقه الذين كانوا يؤلفون جماعة فنية باسم المدرسة الحديثة "كانوا يتابعون (خطى سيد درويش خطوة.. خطوة في أدواره القديمة وطقاطيقه التي كان يغنيها الشعب من أقصى الوادي الى أدناه).وأذن فحقيقة الثورة الموسيقية التي أحدثها سيد درويش هي انه أخرج الموسيقى من القصر الى الشارع وبعد أن كان الغناء قاصراً على المطربين الموهوبين لا يتجاسر عليه غيرهم، جعل سيد درويش كل الشعب يغني.قبل سيد درويش لم يكن في إمكان الشعب ولا هو كان يحب أن يغني "يا ملك قلبي بالمعروف" أو "أنا أعمل إيه في سى الحبيب" أو "أقعد على حجري وشخلعني يا روحي"، أما بعد سيد درويش فقد أصبح الشعب كله يغني "طلعت يا محلا نورها" و"زوروني كل سنة مرة" و"سالمة يا سلامة" و"الحلوة دي قامت تعجن في البدرية" و"قوم يا مصري دايما بتناديك" و"بلادي بلادي لك حبي وفؤادي" وعشرات أخرى من الألحان والأغاني والأناشيد التي مازال الكثير منها يردد حتى اليوم في أفراح الشعب وأعياده واحتفالاته.هذه هي معجزة سيد درويش الكبرى وآيته الخارقة التي استطاعها بمفرده وحققها في أقل من ست سنوات هي عمره الفني الذي بدأ حين وفد الى القاهرة سنة 1917 وانتهى حين وفاه أجله في سنة 1923 ولما يبلغ الثانية والثلاثين، وهذه المعجزة معجزة مزدوجة فهي معجزة للكيفية التي تمت بها وهي معجزة بالنتائج التي ترتبت عليها تماماً كإطلاق المسارد من القمقم، ثم الخوارق التي سخر المارد لتحقيقها.فلكي نغني الشعب كان لابد من استخدام "أسلوب" في التأليف الموسيقي غير الأسلوب الذي كان يغني به "سلاطين" التخت أسلوب بسيط بساطة الشعب بدل الأسلوب المعقد كتعقيد عالم الحريم والأغوات.ثم كان لابد لهذا الأسلوب البسيط أن يكون "أصيلاً" يمنح من عبقرية الشعب مباشرة أي يستلهم الأنغام المجهولة المصدر والتي يتغنى بها فئات الناس المختلفة كالسقايين والشيالين والباعة الجائلين وشعراء الربابة والمراكبية والفلاحين والعمال ليحولها الى أعمال فنية اعجازية هي السهل الممتنع، قمة البلاغة الموسيقية، بل لقد استوح سيد درويش أغاني الأطفال الساذجة في الحواري والأزقة، فمن مداعبات الأطفال لخروف العيد "السح يا نتح يا خروف نطاح" أخذ نغمة اللحن المشهور "يا أبو الكشاكش كان جرى لك ايه يا هلترى" الذي سرعان ما حفظه الناس وتغنوا به ضاحكين.فالأسلوب البسيط الأصيل السهل الممتنع النابع من معين العبقرية الش
الثورة الموسيقية في تراث درويش
نشر في: 12 مارس, 2010: 06:57 م