محمد خضير فوضى الإعلانات الانتخابية، الحرارة المتصاعدة، وهج الشوارع، النزهة في مشاتل ساحل (الخورة) المفتوحة ساعات النهار بطوله، منافذ الربيع الذي تنتقل تداعيات دفتره انتقال الفراش والنحل بين زهور المشاتل. أفكر بعنوان صحيفة (كناس الشوارع) لأبتدئ ربيع التداعيات القصير هذا، وأحرر صفحات دفتره الشحيحة. صدرت صحيفة ميخائيل تيسي عام 1925، في أول ربيع للانتخابات البرلمانية العراقية،
وسأختتم تداعياتي بحلم من أحلام انتخابات الربيع الأخير. تصل بي تداعياتي إلى سياج نهر العشار، فاستند إلى حافته الحجرية وأتطلع إلى شرفات عمارة (النقيب) المقابلة. شرفات مكعبة نشرت عليها نساءُ العمارة سجادَ الشتاء المنصرم وملابسَ الأطفال الذين خرج آباؤهم للتصويت على مستقبلهم القلق. أفكر بأن هذا النهار هو نهار النساء وأن بيوت العشار كلها بيوت نساء، تتدلى من سطوحها السجادات ويستريح في ظل جدرانها الآجرية كناسو الشوارع.يقفز ربيع التداعيات حرّاً من منزل إلى منزل، ومن فكرة إلى فكرة، على مستوى اللفظة المفردة والجملة المركبة، وأتذكر سجالاً نقدياً خاضه نقاد كبار أواخر الستينات وأوائل السبعينات حول أسلوب التداعي الحر الذي استعان به قصاصون أمثال عبد الملك نوري ونزار عباس ومحمد روزنامجي وغانم الدباغ لبناء قصصهم. ظن أولئك النقاد أن تكنيك التداعي الحر هو أقل شأناً من تكنيك تيار الوعي الذي طبقه جويس وفوكنر بصيغته الفرويدية في رواياتهم. وأرجعوا صعوبة تطبيقه عندنا إلى بساطة الشخصية العراقية وعجز وعيها الثقافي والاجتماعي عن استبطان أغوارها النفسية بصيغ معقدة ومركبة. لم يكن هذا الرأي منصفاً لإخلاص قصاصينا في استعمال التداعيات الحرة للتعبير عن قلق الشخصية العراقية واضطرابها النفسي وعنفها الاجتماعي، في الربيع الذي سبق هزيمة حرب حزيران، وفي الأعوام التي توسطت حكم البعث عام 63 و68 . كان ذاك ربيع التداعيات الذي أنتج فيه قصاصان بارزان أثمن قصصهما، أعني موسى كريدي وأحمد خلف، وهاجر من زمنه روائي ثالث هو إسماعيل فهد إسماعيل إلى زمنه الكويتي.لم يستعمل إسماعيل فهد إسماعيل أسلوب التداعي الحر لضرورة شكلية خارجية، وإنما للتعبير عن أزمة شعورية داخلية، وللإعلان عن رغبة دفينة في الخروج من الدائرة التاريخية الضيقة للمساحة الستينية، وللهجرة من أسرها النفسي وإحباطها السياسي إلى مساحة مجاورة. كانت رباعية إسماعيل الأولى (المستنقعات الضوئية، وكانت السماء زرقاء، والحبل، والضفاف الأخرى) تعبيراً عن حلم مبكر بالانسلاخ من الهوية الوطنية، وبداية انقسام ذاكرته وانفصامها عن ربيعها الرمادي الستيني. ذهب إسماعيل بعيداً وراء ثيمات القضايا القومية، الفلسطينية واللبنانية والمصرية، وحالما كان يعود إلى ربيعه العراقي كان تداعيه الحر يتخذ نسقاً خطياً متعرجاً، ويبلغ انقسام ذاكرته شأوه الأعلى، فهو إذ يعبّر عن الحنين إلى المكان العراقي الأصلي، ينكسر وينقض عليه بجفاء وإنكار فصاميين.(سباعية إحداثيات زمن العزلة، ويحدث أمس).بدوري أختط نسقاً متعرجاً لدفتر الربيع، فأتبع تداعيات حلم راودني عشية الانتخابات البرلمانية في السابع من آذار الجاري، واشعر أني ملزم بإرداف تفسير واضح للحلم خلاف عادتي في نشر أحلامي المحضة، في المدة الأخيرة. رأيت نفسي في المنام، مع مجموعة من المهاجرين العراقيين محشورة في ساحة مسورة ملحقة بدائرة للهجرة، ومكان الدائرة هو إيطاليا. لم تكن للحلم مقدمات، فجأة ظهرنا جالسين جنباً إلى جنب، أو مبعثرين في حلقات، نشعر بالقلق من انتظار تدقيق أوراقنا أو التحقيق في أسباب هجرتنا. رأيت نهراً ضيقاً يجري خلف ظهورنا، يحرس ضفته الثانية رجال الشرطة، فقلت لصاحبي بجانبي: "ما أن ننجح في عبور هذا النهر حتى نصبح أحراراً". بالطبع احتوى الحلم حوارات شتى لا ألزم نفسي بتدوينها حرفياً، كما أني اجهل زمن أحلامي، فالأحلام تخترع نسقها الظرفي كما تشاء أو يشاء العقل الواعي الذي سيرويها بعد الاستيقاظ. استمر الحلم فوجدت نفسي منطرحاً على جانبي، مراقباً ما يدور حولي. شاهدت رجلاً يقترب بخطى متمهلة، يرتدي معطفاً أسود وقبعة سوداء. كان ملتحياً غاطساً في ملابسه السود الأنيقة، حسبته أحد مفتشي دائرة الهجرة. دنا ووقف إلى جانبي فرأيت حذاءه اللامع، المزود بمهماز حديدي، قريباً من وجهي. أمرني بالاعتدال، ثم جال جولة وعاد إلى مكاني. اعتدلت جالسا، ولاحظت أني تركت في مكان انطراحي بركة ماء كونتها دموعي الغزيرة. أشار الرجل الأسود إلى البركة وقذف نحوي بكلمات مبهمة. لم أميز لغة الرجل، لكني خاطبته بلغة إنجليزية: "I don’t care, Nobody". بدا العجب على وجوه أصدقائي لمخاطبتي الرجل الغامض بالنكرة. هززت رأسي لهم، معرباً عن ثقتي بنفسي تجاه من يبدو شخصاً مهماً. خلع الرجل قبعته وبرك مبتسماً. كان رأسه الأصلع وبشرته الدكناء ولكنته المريبة تزيد من إصراري على تحديه. سألني عن اسمي وعملي، فبينت له ماهية شخصيتي التي ظننت أنه يجهلها، ثم استفهمت عمن يكون. انفرجت شفتاه الغليظتان ثم انفجر بضحكة مجلجلة وارتمى بثقل جسمه عليّ وهو يعرفني باسمه. عرفت في رجل التحقيقات المزعوم صديقاً مقرباً كان قد ترك العراق قبل سنوات طويلة، وأفادني أن صديقاً آخر أعرفه، كان ريفياً مغموراً، قد نال ما ناله من رقيّ وحداثة من قمة رأسه حتى قدمه التي تنتعل
خارج العاصمة :دفتر الربيع.. (تداعيات حرّة)
نشر في: 15 مارس, 2010: 04:48 م