TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > اوراق: الغجرية التي أحزنتنا ذلك المساء

اوراق: الغجرية التي أحزنتنا ذلك المساء

نشر في: 16 مارس, 2010: 05:53 م

محمود عبد الوهاب غالباً ما كنت أردّد : يا للحياة من مهنة شاقة ! .  إنها شاقة بما تمتلكه أنت من وعي ، يأخذك ذلك الوعي من يديك ، إلى ما يفسد عليك حياتك التي كنت تعيش في أفيائها سعيداً . أنا ، هنا ، على الرصيف ، رجالٌ ونساءٌ ألمح متاعبهم من تثاقل خطاهم ، والمدينة ، ذلك الميناء البهيج ،
 استحالت إلى قرية مركونة ، وأنا ، بين المارة ، خيط هزيل يحار أين يكون مستقرّه هذا الصباح  . كتب تولستوي في إحدى رواياته : السعادة ذات طعم واحد ، لكنّ الشقاء متنوع الطعوم . صباح هذا اليوم ، عُدت إلى قراءة رواية " المقامة البصرية العصرية " للروائي الصديق الراحل مهدي عيسى الصقر ، وهي حكاية مدينة ، اتخذ منّا مهدي ، أبطالاً لروايته ، السياب والبريكان وسعدي يوسف والصقر وأنا . جرت حوادثها في نهاية الخمسينات من القرن الماضي . كتب مهدي: كنّا ما نزال شباباًُ ، وكانت المزحة تهيمن على جلساتنا ، وفي مقهى البدر على كورنيش البصــرة ، كنّا ذلك المساء مجتمعين ، وكان السياب مغرماً بالدعابة ،أشار السياب إلى الغجرية أن تدخل المقهى، وسألها أن تكشف بالحَجَر الذي تفرشه على الأرض، سترَ مصائرنا. طلبنا منها أن تبدأ ببدر فهو صاحب الفكرة . لم نكن نصدّق ما تقول، لكننا كنا نتسلّى ، وقد أحزنتنا حينما قالت لبدر : تموت صغيراً في أرض غريبة ، ولمهدي أراك تحت نجم آخر ، ولي ستعيش حياتك بلا رفيقة درب ، ولسعدي ستتقاذفك البلاد الغريبة ، وتنبأت للبريكان بمصير فاجع . قبل صدور الرواية ، كنت أقرأ مخطوطتها في بيت مهدي ، توقفتُ عند حكاية  الغجرية، قلت لمهدي : أنا أتذكر شيئاً من تلك الحكاية ، وما قالته الغجرية عنّا بلغتها الغامضة . سألتُ مهدي : هل كانت تلك المصائر التي ذكرتَها في روايتك هي نفسها التي تنبأتْ بها تلك الغجرية حقاً  ؟ . أليس بعضها من خيالك كروائي ، أليس الواقع في الرواية مرئياً ومتخيّلاً ؟ . انقضت حكاية الغجرية . أتساءل الآن كلّما ضاقت بي العزلة  في شقّتي ، واجتاحني استيحاش مرير مما حولي يحملني مهزوماً بالمزاج المكتئب إلى فضاء الشارع الفسيح الذي أجد فيه خلاصي ، بين حركة المارة ونداءات الباعة والصباح المتكسّر على ذيول واجهات الدكاكين ، أتساءل، أأنا اجتماعيّ بالطبع كما يقول فلاسفة الاجتماع أم أنا اجتماعيّ بالضرورة كما يقول الماركسيون ؟ .  أستدرك، وأقول : أنا اجتماعيّ بالضرورة ، تلك الضرورة التي تأخذني إلى الشارع اليومي المزدحم الضاجّ ، وتضعني في خانة لمكتب صديق ، أو علــى تخت مقهى شعبي ضاجّ ، أو على كرســـي مجاور لمطعم تتجاوز رائحة شوائه رصيف المارة ، شواءَ ودخاناً ورائحة نافرة . هكذا يبدأ يومي ، أنا المسكون بوحدته ، تلك الوحدة التي تحملني  إلى نوع خاص من الكتب ،  وإلى نوع خاص من القراءة تنفتح على علاقة الأدباء والفنانين ومجالسهم وسيرهم بعفوية الإنسان وسماحته ، مثل هذه الكـتب تنساب متعتها إلى داخلي . أتوقف  لحظات عن القراءة ، أتأمل بلذة وندم معا الخسارات والمباهج التي اكتنفت حياتي . أتذكر أن " إزنشتاين " المخرج السوفيتي الكبير قال في محاضرة له : لن يستطيع أحد أن يُرجع الزمن إلى الوراء غير السينمائيين ، حينما يديرون "بوبينة" الفيلم " = بَكْرة الفيلم" ، على عكس ما يجري عادةً، من النهاية إلى البداية  . غالباً ما أتوق إلى لقاء تلك الغجرية ، أسألها : هل بالإمكان أن يرجع الزمن حقيقة، وتعود هي إلى تغيير مواضع أحجارها اللئيمة التي فرشتها على الأرض ذلك المساء، هل بالإمكان؟ .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram