حسين الهنداويمنذ ديوانه الأول (أغاني القافلة) المكتوب في أزمنة البراءة والعنفوان، والصادر في بغداد عام 1950، وحتى لحظة وفاته في 15/3/2010 في العاصمة السويدية ملجئه الأخير، وكاظم السماوي ظل يتألق متباهياً وأكاد أقول متماهياً مع انسانية حالمة وآسرة في آن، هي رفيق عمره الآخر: عبرها تسامى، ومن اجلها تناثر، وبها أسمى صحيفته "الانسانية"
التي اصدرها في بغداد بعيد ثورة 14 تموز 1958، كما دسها علناً، وغالباً سراً، في كل قصائده تقريباً، مانحاً اياها للرائح والغادي، وللقريب والبعيد ودون مقابل دائماً.واذا كان الناقد الراحل (ميشال سليمان) رأى في شعر السماوي "رافداً باهر الخصب في نهر الشعر العربي الحديث" فإن من المؤكد لدي انه شاعر تلك الانسانية الصافية الثائرة انما المغدورة، وليس في بعدها العراقي وحده برغم ان هذا البعد كان نطفتها الاولى وظل حاضراً فيها كجوهرها الخفي. والسماوي ايضاً يساري وواقعي وملتزم وكل ذلك بالمدلول العريق وأكاد اقول الأول لهذا المعاني.وتحت ضوء هذه الخاصية وحدها احياناً، ينبغي في رأينا قراءة معظم وربما كل قصائده، اذا اردنا استكناه اسرارها وإصراره على العطاء.فهذا الشاعر الحالم مبكراً "بالقمم المغسولة بالشمس" يندر ان لا يتقاطع قارئه في لحظة او اخرى سواء في قصيدة من قصائده التي تتمدد على تباريح نصف قرن، او موقف او وقفة في منفى من المنافي التي لم تعد تحصى بيسر، مع رموز غاية في التنوع والتناثر والتنائي الا انها تتقاطع بل تتداخل دائماً عبر عمقها الانساني المسكون بالامل الواثق ظاهرياً انما القلق في مكان او لحظة منه.ويكفي ان اذكر من ديوانه الاول وحده اسماء جعفر ابو التمن وبول روبنسن والشاعر الزنجي الاميريكي ماك كربا وبرنادشو والمعري وكارل ماركس فيما تجسدت في مجموعته الاخيرة هذه باقة تضم (عروة بن الورد) و(علي فودة) و (حلبجة) و(عطشان الازيرجاوي) وشهداء قصر النهاية و(حسن السريع) وكردستان "وردة النار الخالدة".هذا الهاجس، بل هذا الوفاء، كان قد تأكد سلفاً وترهّف انما تسيس اكثر في ديوانه الثاني "الى الامام ابدا"، الصادر في بيروت عام 1954، والثالث "الحرب والسلم" ثم في "رياح هانوي" و"الى اللقاء في منفى آخر"، و" قصائد للرصاص.. قصائد للمطر" حيث الرصافي وبيروت والشاعر الزنجي جوزيف نورث وحمالو ارصفة الموانىء الامريكيون وديان بيان فو والشرق الاحمر وهانوي وبكين، هي الرموز التي تقاسمت الهواجس لديه انما مناصفة، كما دائماً، مع العراق الذي لئن صار محض طيف، كان في غياهب الدخيلة كل شيء ومركز النبض ساعة الحساب الحقيقي لدى كاظم السماوي الذي ظل ينوّع ويزهّر رموزه الانسانية ببهجة مدافة بخيط من الحزن عميق هو ايضاً ومرير في زوايا منه.ذلك لان نزفاً ثراً وجسيماً الى هذا الحد يخفي اخاديد غائرة، واي أخاديد، وأي اوردة تلك التي تختزن كل هذا العمر من التغربات والمنافي الخارجية والداخلية والاغبرة والانكسارات لهذا الشاعر الذي كتب له وعليه مرة بعد اخرى ان يرى بيته يحترق... واي احتراق.وطن من رماد لم يعد قبلة للاساطير، موقداً للسنا، وآيات نار تلمست وجهي ولم يك وجهي مرايا السلاطين ملء الزمان...ملء المكانفي (فصول الريح ورحيل الغريب) الاوردة هي ذاتها من سيشتعل هذه المرة في فاجعة "رحيل الحلم"... وهل من فاجعة يمكن ان تنهش القلب اربا اربا كرحيل ابنه نصير:هد حيلي مصابك الجلل كيف اقوى وثقله.. جبل...اهو العدل مسه الخبلان اطيل ثوى وترتحل...جئت حلما ورحت حلما،رفيفا، جرحك الجرح كيف يندمل؟هكذا كان رهيبا مشهد فقدان فلذة الروح لكن، وكليث بلا عرين يكابر كاظم السماوي مشاطراً الريح براءتها وقلقها المكتوم ولا اباليتها الابدية وبهجتها ايضاً، مهما كانت هذه ناضبة وعابرة. و"ملقى وراء الليل" محروماً من وطن صار مسوراً على ابنائه بالحراب، ورافضاً مهادنة انظمة ذئاب وامميات مخابرات وجبهات ذليلة ظل السماوي يتفرى الدروب هائماً بضميمته الاولى، العراق، وبـ "اصداء حلم نرممه كل يوم" متلفعاً طواعية بجرح "انعكاس المرايا وموت المناشير والثورة العاقرة.." غامت بعينيك الديار لم يبق منها – يا رحيل – سوى الغبارسوى ظلال انكسار نصحو على السكين في اعناقنا نغدو ونكسر كالحجار يقينا، ثمة استمرارية ووحدة داخلية مدهشة بين كل مجموعات كاظم السماوي الشعرية تعبر عنها نزعتها الانسانية، نصف العفوية، المستوحاة والتي تعبر عن نفسها في جملة من الخصال ليس ما تقدم الا جزءا منها، ولا اهادن، مجموعته الشعرية الجديدة هذه تحمل كل هذه الخصال دفعة واحدة ومن جديد، لكنها تحمل خلسة، وكالحفيف، حكمة شيخ انتمى ابدا الى الحلم والى الحياة:شجراً لرملكم طويت العمر ما رسمت خطاي .. سوى خطايلم تنطفىء جمرات حلمي يا سواي .. ولم يكن يوماً..سوايوطن؟ ومذ خمسين عاماً كان لي وطنومذ خمسين عاما كان لي منفى وما اغترب الزمان الريح بعدكمُ تلمّ غباركمُ... وما انطفأ السراجلعل شظايا القلب هي ما يتطاير هنا متسللا من بين ما يشبه الصخور، متلوياً من شدة غربته، انما ايضاً من وطأة وغلاظة اعوام تنوء بأعباء تسعة وخمسي
فـي رحيل الشاعر الكبير كاظم السماوي شيـخ الـمنافي وشاعر الأممية الصافية
نشر في: 17 مارس, 2010: 05:26 م