شهدت الثلاثينيات بداية تكوينه الأدبي و تبلوره الفكري، و قد مارس كتابة الشعر و النثر منذ مستهل حياته الأدبية حتى أواخرها مع تطور اسلوبه و تعمق فكره. و كتب المقالة و القصيدة و القصة و عالج الترجمة. و تشف كتاباته في هذه الحقبة عن روح إنسانية صادقة، و توجع لمآسي الناس و توق للمثل العليا و القيم الإنسانية لازمته مدى العمر.
وتعبر قصة «غريب» عن هذه الأماني التي تعتمل في ثنايا نفسه: «نشأ و في نفسه ظمأ و لكنه لا يعرف لأي شيء، و في روحه حنين و لكنه لا يعرف لمن، و كل ما يعرف عن نفسه أنها ضامئة، و أنها تتطلع إلى شيء خفي... شيء عذب... شيء مقدس... يحس بعذوبته و يحس بجماله و لكنه لا يراه و لا يلمسه في الحياة»14، بيد أن تطلعه لكل ما هو سام و إنساني كانت تصفعه القسوة و الإكراه و الظلم الذي يموج به المجتمع و لذلك شعر بالبعد عما يحيطه و النفور منه. و يشير إلى عدم الانسجام مع الحياة القائمة قائلاً: «ذلك لأننا نتطلب شيئاً آخر... نتطلب ما هو أسمى منها. نتطلب ما يعبر عنه «بالمثل العليا» و هذه المثل بعيدة عنا و لذلك تظل «الروح غريبة في هذا العالم»15. أفضى به التطلع نحو القيم السامية إلى البحث المتواصل الذي لا يكل عن نظرية أو مبدأ أو عقيدة بمستطاعها نشر العدل و الوئام بين الناس و لم يعتقد بتأصل الشر و الجور في عالم الإنسانية و لم يعتبره جزءاً ملازماً لها. و سلك دروباً عدة لبلوغ غايته، فبعد ان كان شيخاً معمماً و بعد ان تضلع بالعلوم الدينية انتقل إلى السلك المدني و أصبح مدرساً للغة العربية و انفتحت أمامه آفاقاً جديدة رحبة للتقصي و الاستكشاف و العمل.و الجدير بالذكر ان روح الشباب المتوثبة و نظرته المتحمسة المندفعة صاحبته طوال حياته، و كأن أعوام التجارب المضنية لم تمس شغاف قلبه و لم توهن عزيمته و لم تحجب النظرة المتفائلة من أفق وجوده. و هنا يحضرني قول بيلينسكي و هو يغبط أولئك الذين يستطيعون الاحتفاظ بتلك الجذوة المتوقدة دائماً في أرواحهم: «يوهب الإنسان مرة واحدة في حياته، و في الشباب يمتلك قابلية أكثر من أي فترة أخرى من العمر على فهم كل ما هو رائع و سام. طوبى لمن يستطيع الاحتفاظ بالشباب حتى كهولته و لا يسمح لروحه أن يعتريها البرودة و القسوة و التحجر»16. كان لهذه الخاصية أثر في مواصلة سيرورته الأدبية و نشاطه الفكري رغم الظروف القاسية التي مرّ بها. فلم يتوقف عمله الأدبي عند منتصف الطريق و لم ينغلق ضمن إطار محدود، و لم يصب أسلوبه بالتكرار سواء في مواضيعه أو لغته أو مضامينه. لقد كفّ الكثيرون عن مواصلة مسيرتهم الأدبية عندما اصطدموا بأمواج الحياة العاتية أو ظلوا يجترون أنفسهم دون ان يتمكنوا من الإبداع و التجديد و تطوير موهبتهم و قدرتهم الفنية، و هذه ظاهرة واضحة في الحياة الفكرية و الأدبية سواء في العراق أو غيره من البلدان، بينما محمد شرارة شحذ ملكته و رفدها من تيار الحياة المتدفق، و لذلك جاءت كتاباته في أعوامه الأخيرة من أنضج ما خط قلمه في النقد الأدبي. لم يقتصر (محمد شرارة) على جنس واحد من الأجناس الأدبية، و إنما عالج أشتاتاً و أنواعاً منها. و كان اسلوبه متميزاً في مختلف المواضيع التي طرقها، و يشف عن روح شاعرية سواء في مقالاته أو قصصه، أو تراجمه، ناهيك عن قصائده، و يتسم بميسم رومانتيكي و ينم على حس مرهف تجاه الكلمة و وظيفتها الغنية في النص الأدبي. ان العبارة المألوفة و الجمل الاعتيادية التي اجترتها الأقلام بعيدة عن يراعه و غريبة عليه. فأسلوبه النثري ينأى عن العبارات التقريرية الصحفية التي تصوغ الفكرة بشكل مكرر و خال من الروح الفنية. فهو يحلق بالكلمة في دنيا الإبداع فتتفتح قوتها الداخلية و تكتسي بظلال شعرية و تتكشف نضارتها و ليونتها. و بذلك تنتعش الكلمة مفعمة بعبق الشعر و عذوبته، باعثة في النفس الجمال و الدفء و الدهشة.يتجلى هذا الأسلوب الشعري الذي هو أقرب إلى النثر الفني الإبداعي منه إلى النثر المألوف حتى في مجالات الكتابة التي تطغى عليها النبرة الخطابية و الجفاف اللغوي و الكلمات الرنانة كما هو الحال في الحفلات الرسمية أو التكريمية التي تسودها عادة الروح الخطابية الحافلة بالعبارات الحماسية الرامية إلى التأثير في نفوس الحاضرين. و لنستمع إلى كلمة ألقاها في حفل أقيم تكريماً لوفد علماء الدين كي نتعرف على خصائص أسلوبه في مجال يصعب فيه الابتعاد عن النزعة التقريرية. يشير إلى دور العلماء في إنهاض الأمة و بعث روح اليقظة فيها قائلا: «و إذا الظلام ينجلي رويداً رويداً و إذا بشفق الصبح يلوح كما تلوح الدمعة في عين العاشق و إذا بالأنوار تذوب ألواناً تسيل من أقلامكم شعاعاً صافياً و إذا بالأمة بعد ذلك تمسح عيونها و تنفض ما عليها من غبار الدهور ثم سارت وراءكم طروبة مرتاحة تنظر في كل وقت ما تلقونه عليها من كلمات خالدة في العلم و الدين و اللغة و الأخلاق و السياسة أحياناً»17. ألقى هذا الخطاب عندما كان ما يزال في مستهل مسيرته الأدبية، و مع ذلك امتازت لغته بالشاعرية و السلاسة و الليونة، و مواكبة روح التجديد في مضامين المواضيع التي تناولها.و كتبت حياة
من مقدمة حياة شرارة من كتاب "المتنبي بين البطولة و الاغتراب"
نشر في: 19 مارس, 2010: 04:22 م