17/5/1937 أخي العزيز لست أدري ما الذي أخرني عن جوابك إلى هذه الساعة بالرغم من حرصي الشديد في انتهاز الفرص لمكاتبة الأصدقاء، و الحقيقة أني حائر في تعليل هذا التأخير... و إذا أردت أن أقول (الخجل) أو (التمادي في التقصير) أو ما أشبه ذلك رأيته بعيد عن الحقيقة.
و كل ما هنالك أن في النفس شيئا غامضا أحسه و أحسن التعبير عنه.. كما أني لا أعرف ما هي الأسباب التي أوقفتني من (الهاتف) العزيز هذا( الموقف الصامت) و الحقيقة هي كما قلتها أنت فلا (المدرسة) و لا (دفاتر الإنشاء) البالغة في الأسبوع ما ينتهز (المئتين) و لا غير ذلك من (الأشغال المتعبة) هي التي أوقفتني هذا الموقف و الذي أستطيع أن أقوله – بالرغم من أني لا أطمئن كل الاطمئنان – أن حياتي الحاضرة و الظروف التي تحيط بي هي التي أوقفتني هدا الموقف الذي لم أكن أتصوره، و لم يكن يخطر ببال، « فأنا أحيا... حياة جافة جامدة لا أثر فيها للعاطفة المشبوبة أو الخيال الجامح أو الروح الملتهبة.. حياة أقل ما يقال عنها أنها (ميكانيكية) بكل ما في لفظ الميكانيك من (معنى جاف).. و لو كان لي مورد ضئيل من الرزق أحفظ به كرامتي و عزة نفسي، و أحفظ به عائلتي من الفاقة لضربت هذه (الوظيفة) ضربة فيها كثير من الحقد و النقمة و الاهانة و السخرية لا لأنها (جنت) عليّ بل لأنها قربتني من أناس أنا أبعّد ما أكون عنهم روحاً و تفكيراً و عاطفة و خيالاً. قربتني من أناس لا يرون العلم إلا بقصاصة ورق... و لا يرون التجدد (بالسترة و البنطلون و الخمرة و الاستهتار بالفضيلة) بل و كل (ما يبتعد بالنفس عن الكمال و الطهارة) قربتني من جو موبؤ لا أفكر إلا بالتخلص منه.. فهذه الحياة الملتوية المضطربة، و هذا الجو المبطن بما يخنق الأنفاس هو الذي أوقفني هذا الموقف على ما أظن... هل تصدقني إذا قلت لك بأنه قد صار ماضيا على أكثر من شهر لم أكتب في خلاله كلمة واحدة لعائلتي و أنت أعلم مني بما يؤدي هذا (الشح) و ما يجره من قلق على نفوس كريمة لا يهمها من الدنيا إلا راحتي و سروري؟؟! فماذا تقول لي؟؟ و ما ذا أقول لك؟؟ و هل استطيع أن أقول لك أكتب لي على كثرة أشغالك لأن كتبك واحة جميلة تطلع في صحراء حياتي.. و هل أستطيع أن أقول لك أني بحاجة إلى كتبك أكثر مما أنت بحاجة إلى كتبي على ما تكابد من شدة و محنة... لأني أعتقد أن ابتسامة واحده تطفو على ثغر فريدة تزيل عنك كل هم و تخلق في نفسك جوا فياضا بالأشعة. وصلتني القصص و ذهب منها سبع لحد هذا التاريخ و سيذهب الباقي و سلمت لعبد المحسن قصة كما اشتهيت و جاء العدد القصصي بالأمس و الحق أنه عدد رائع لكن قصة الآنسة صفدي نشرت قبل هذا في مجلة (الرواية) لغيرها... سلامات للإخوان و دم لأخيك المخلص. محمد شرارة
رسالة من محمد شرارة إلى جعفر الخليلي
نشر في: 19 مارس, 2010: 04:22 م