كان "الجوع" أول إحساس أيقظني، أو أيقظ وجودي و أشعرني أن لي كيانا قائما بذاته، و له حاجاتاه ومطالبه الخاصة و إن اشترك معه فيها جميع الناس. لم أكن أعرف في تلك اللحظة عدد أيامي، و كنت أجهل عمري، و لكني لم أتجاوز دور الطفولة الأولى
(1)في بيت صغير من بيوت الريف العادية المتواضعة ولدت، و ولد بعدي ثلاث بنين و بنت و صبي ، ثم أعقبه بنت أخرى، و بها ينتهي التوالد، و تأخذ الأسرة إطارها النهائي، و تبدأ حركة الحياة في خطها الاعتيادي الذي تحركه الأصابع الخفية، كان "الجوع" أول إحساس أيقظني، أو أيقظ وجودي و أشعرني أن لي كيانا قائما بذاته، و له حاجاتاه ومطالبه الخاصة و إن اشترك معه فيها جميع الناس. لم أكن أعرف في تلك اللحظة عدد أيامي، و كنت أجهل عمري، و لكني لم أتجاوز دور الطفولة الأولى.السنة كانت سنة حرب، و كان الشباب كله غائبا عن القرى، و كل شيء يكاد يكون مشلولا في غيابه. فالزراعة تتحرك في أضيق الحدود، و التجارة أشبه الأشياء بالأخبار المضطربة، و ساحة الحرب لا تشبع من المطالبة بالشباب و الموارد الشحيحة و وسائل النقل من الخيل و البغال و الحمير و أشباهها من الوسائل الشائعة.تحت تينة، و هي الشجرة الثانية بعد الكرمة المغروسة في الدهر، كان الإحساس الذي فتح عيني، لأول مرة، على الحياة، و على ما فيها من غرائب. كنت أبكي، و كانت أمي تنظر نظرات لا أعرف مغزاها، و لا تشير إليه. و لكنها لم تكن تأنيبا أو توبيخا، و ربما كانت عطفا أو حنانا أو حيرة. و لم أعرف ما تم بعد دلك، و لا كيف عولج البكاء، أو عولجت الحاجة إلى الرغيف. و كل ما بقي من الذكرى أن ذلك الإحساس هو الذي أشعرني بالوجود، و انه كان النقطة الأولى في سلسلة النقاط التي تكون الخط الجديد في الرؤية. و لو مر ديكارت بهذا الإحساس، أو التفت إليه في لحظة المرور لانطلق من إلى فلسفته المعروفة، لأنه أسبق من التفكير و من التأمل العقلي في الكون و الحياة.في الضوء الجديد بدأت أطل على حياة الناس، و حياة الفقراء بصورة خاصة، ففي ذات يوم كنت واقفا على أحد السطوح المشرف على البيوت، و لم تكن أكثر من غرف في دار واحدة، و كان على بوابة الدار الكبيرة مجموعة من الشحّاذين، فانسلت من بينهم فتاة شابة، و دخلت الدار، و وقفت على باب إحدى الغرف و سألت أهلها ما يسأله الشحّاذ عادة. و لما عادت سألها الذين ظلوا ينتظرونها قبل أن تصل إليهم بالعيون، فأخرجت كسرة صغيرة من الخبز لا تتجاوز حجم الدرهم و وضعتها بين إصبعين من أصابعها، و لوحت لهم بها.كانت الكسرة، على صغرها، شيئاً عظيماً، و كان التلويح بها يعني أن "العطاء" ممكن، و أنهم قد يحصلون على كسر مماثلة، و عندئذ دخل الفوج كله، و توزع على غرف الدار الكبيرة، و لم أعرف كيف عاد، و كيف انتهى الطواف بين السائلين و السائلات. هذا الاسلوب، و هو إرسال احد أفراد المجموعة، كان شائعا فلا يقف السائلون كلهم على الأبواب، بل يرسلون واحدا، فإذا عاد بقليل من الخبز دخل الباقون و الباقيات. و قد عرفت فيما بعد إن ذلك السيل من النساء و الأطفال و كبار السن لم يكن، أو لم يكن أكثره، من الشحاذين. و لذلك لم تكد تنهي الحرب حتى اختفى، و لم يبق منه سوى النوادر.حديث الحرب و الجوع و الموت كان دائما على جميع الشفاه، و لم يكن للناس حديث غيره، ففي أمسية من الأماسي كان عمي عائدا من بيروت، و كان حديثه عن شاب رأى رجلا يحمل تحت أبطيه من الخبز، فسار الشاب خلفه سيرا خفيا لا يكاد يحس. و لما آنس منه غفلة خطف رغيفا و لاذ بالفرار، و وقعت الأرغفة كلها في المفاجأة على الأرض، و ما لمها الرجل، حتى كان الخاطف بعيدا عنه ، و لكن سار وراءه حتى يسترد الرغيف. و لما أدركه أو كاد شق الشاب رغيفه و أخد يزدرده قطعة بعد قطعة، فأحد الرجل يضربه على رأسه، و كان تحمل الضرب أهون كثيرا من التنازل عن الرغيف، أو عما تبقى منه. و انتهى الصراع بعدما دخل الرغيف إلى جوف الشاب، و لكن الشتائم بقيت تتعالى من أحد الجانبين و تملاْ الفضاء.آلف المنظر مجموعة من الناس، و من طبيعة المعارك أن تلم العابرين و العابرات، و تنشئ مجموعة من الأسئلة تتنقل من فم إلى فم في محاولة للوصول إلى المعرفة، و كان في المجموعة فتاة في ريعان الصبا، و لكنها على صباها، كانت شاحبة، و كان الضوء في عينيها أقل شحوبا و قد تراءى في بريقه معنى غامض.وقفت تتفرج على المتفرجين على المعركة، و كانت عيناها تتركز على السارق الذي خطف الرغيف، و على سرعة الضربات و تلاحقها المتتابع على رأسه، و ظهر في ملامحها شيء من التعبير، و لكنه كان تعبيرا ملونا يختلف باختلاف اللحظات. و كان على الشتائم أن تجد لها نهاية بعد ما تنهى أمر الرغيف، و أصبحت إعادته مستحيلة، و هذا الذي كان، فقد استسلم الرجل للواقع بعدما فرغ غضبه، و اكتفى بما ألحقه من ضرب و اهانة.تفرقت المجموعة، بعد ما تحرك الشاب في أحد الطرق، و كان يتلفت وراءه، لا يكاد يقطع مسافة صغيرة حتى يزداد تلفتاً... لقد كان خائفا، و كان يترقب جزاء. أثناء التلفت رأى فتاة وراءه، و أحس أنها تتابع خطاه. لم يخف منها، و لما تأكد أنها تتابعه و تقصده وقف. و عندما اقتربت منه لاحظ أنها كانت من الواق
الصفحة الأولى من مذكرات محمد شرارة التي لم تر النور
نشر في: 19 مارس, 2010: 04:31 م