TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > الصفحة الأولى من مذكرات محمد شرارة التي لم تر النور

الصفحة الأولى من مذكرات محمد شرارة التي لم تر النور

نشر في: 19 مارس, 2010: 04:31 م

كان "الجوع" أول إحساس أيقظني، أو أيقظ وجودي و أشعرني أن لي كيانا قائما بذاته، و له حاجاتاه ومطالبه الخاصة و إن اشترك معه فيها جميع الناس. لم أكن أعرف في تلك اللحظة عدد أيامي، و كنت أجهل عمري، و لكني لم أتجاوز دور الطفولة الأولى
(1)في بيت صغير من بيوت الريف العادية المتواضعة ولدت، و ولد بعدي ثلاث بنين و بنت و صبي ، ثم أعقبه بنت أخرى، و بها ينتهي التوالد، و تأخذ الأسرة إطارها النهائي، و تبدأ حركة الحياة في خطها الاعتيادي الذي تحركه الأصابع الخفية، كان "الجوع" أول إحساس أيقظني، أو أيقظ وجودي و أشعرني أن لي كيانا قائما بذاته، و له حاجاتاه ومطالبه الخاصة و إن اشترك معه فيها جميع الناس. لم أكن أعرف في تلك اللحظة عدد أيامي، و كنت أجهل عمري، و لكني لم أتجاوز دور الطفولة الأولى.السنة كانت سنة حرب، و كان الشباب كله غائبا عن القرى، و كل شيء يكاد يكون مشلولا في غيابه. فالزراعة تتحرك في أضيق الحدود، و التجارة أشبه الأشياء بالأخبار المضطربة، و ساحة الحرب لا تشبع من المطالبة بالشباب و الموارد الشحيحة و وسائل النقل من الخيل و البغال و الحمير و أشباهها من الوسائل الشائعة.تحت تينة، و هي الشجرة الثانية بعد الكرمة المغروسة في الدهر، كان الإحساس الذي فتح عيني، لأول مرة، على الحياة، و على ما فيها من غرائب. كنت أبكي، و كانت أمي تنظر نظرات لا أعرف مغزاها، و لا تشير إليه. و لكنها لم تكن تأنيبا أو توبيخا، و ربما كانت عطفا أو حنانا أو حيرة. و لم أعرف ما تم بعد دلك، و لا كيف عولج البكاء، أو عولجت الحاجة إلى الرغيف. و كل ما بقي من الذكرى أن ذلك الإحساس هو الذي أشعرني بالوجود، و انه كان النقطة الأولى في سلسلة النقاط التي تكون الخط الجديد في الرؤية. و لو مر ديكارت بهذا الإحساس، أو التفت إليه في لحظة المرور لانطلق من إلى فلسفته المعروفة، لأنه أسبق من التفكير و من التأمل العقلي في الكون و الحياة.في الضوء الجديد بدأت أطل على حياة الناس، و حياة الفقراء بصورة خاصة، ففي ذات يوم كنت واقفا على أحد السطوح المشرف على البيوت، و لم تكن أكثر من غرف في دار واحدة، و كان على بوابة الدار الكبيرة مجموعة من الشحّاذين، فانسلت من بينهم فتاة شابة، و دخلت الدار، و وقفت على باب إحدى الغرف و سألت أهلها ما يسأله الشحّاذ عادة. و لما عادت سألها الذين ظلوا ينتظرونها قبل أن تصل إليهم بالعيون، فأخرجت كسرة صغيرة من الخبز لا تتجاوز حجم الدرهم و وضعتها بين إصبعين من أصابعها، و لوحت لهم بها.كانت الكسرة، على صغرها، شيئاً عظيماً، و كان التلويح بها يعني أن "العطاء" ممكن، و أنهم قد يحصلون على كسر مماثلة، و عندئذ دخل الفوج كله، و توزع على غرف الدار الكبيرة، و لم أعرف كيف عاد، و كيف انتهى الطواف بين السائلين و السائلات. هذا الاسلوب، و هو إرسال احد أفراد المجموعة، كان شائعا فلا يقف السائلون كلهم على الأبواب، بل يرسلون واحدا، فإذا عاد بقليل من الخبز دخل الباقون و الباقيات. و قد عرفت فيما بعد إن ذلك السيل من النساء و الأطفال و كبار السن لم يكن، أو لم يكن أكثره، من الشحاذين. و لذلك لم تكد تنهي الحرب حتى اختفى، و لم يبق منه سوى النوادر.حديث الحرب و الجوع و الموت كان دائما على جميع الشفاه، و لم يكن للناس حديث غيره، ففي أمسية من الأماسي كان عمي عائدا من بيروت، و كان حديثه عن شاب رأى رجلا يحمل تحت أبطيه من الخبز، فسار الشاب خلفه سيرا خفيا لا يكاد يحس. و لما آنس منه غفلة خطف رغيفا و لاذ بالفرار، و وقعت الأرغفة كلها في المفاجأة على الأرض، و ما لمها الرجل، حتى كان الخاطف بعيدا عنه ، و لكن سار وراءه حتى يسترد الرغيف. و لما أدركه أو كاد شق الشاب رغيفه و أخد يزدرده قطعة بعد قطعة، فأحد الرجل يضربه على رأسه، و كان تحمل الضرب أهون كثيرا من التنازل عن الرغيف، أو عما تبقى منه. و انتهى الصراع بعدما دخل الرغيف إلى جوف الشاب، و لكن الشتائم بقيت تتعالى من أحد الجانبين و تملاْ الفضاء.آلف المنظر مجموعة من الناس، و من طبيعة المعارك أن تلم العابرين و العابرات، و تنشئ مجموعة من الأسئلة تتنقل من فم إلى فم في محاولة للوصول إلى المعرفة، و كان في المجموعة فتاة في ريعان الصبا، و لكنها على صباها، كانت شاحبة، و كان الضوء في عينيها أقل شحوبا و قد تراءى في بريقه معنى غامض.وقفت تتفرج على المتفرجين على المعركة، و كانت عيناها تتركز على السارق الذي خطف الرغيف، و على سرعة الضربات و تلاحقها المتتابع على رأسه، و ظهر في ملامحها شيء من التعبير، و لكنه كان تعبيرا ملونا يختلف باختلاف اللحظات. و كان على الشتائم أن تجد لها نهاية بعد ما تنهى أمر الرغيف، و أصبحت إعادته مستحيلة، و هذا الذي كان، فقد استسلم الرجل للواقع بعدما فرغ غضبه، و اكتفى بما ألحقه من ضرب و اهانة.تفرقت المجموعة، بعد ما تحرك الشاب في أحد الطرق، و كان يتلفت وراءه، لا يكاد يقطع مسافة صغيرة حتى يزداد تلفتاً... لقد كان خائفا، و كان يترقب جزاء. أثناء التلفت رأى فتاة وراءه، و أحس أنها تتابع خطاه. لم يخف منها، و لما تأكد أنها تتابعه و تقصده وقف. و عندما اقتربت منه لاحظ أنها كانت من الواق

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram