فقدان المناضلة والفنانة الكبيرة زكية خليفة فقداناً لوجه صاف آخر لجيل كامل من القامات العراقية العالية. عندما باغتنا في الآونة القريبة الماضية، وفي غمرة انشغالنا بالحملة الانتخابية، خبر رحيل الرفيقة الغالية زكية خليفة، تملكنا الشعور بالغدر. نعم، لم نكن نجهل تقدمها في السن، ولا المصاعب الصحية التي تعانيها وتثقل كاهلها المتضائل والمتزايد وَهـَنا.
لكن هذا الواقع الجليّ الذي كنا نقف عاجزين إزاءه، كان يقابله واقع آخر مفعم بدوره: واقع حبنا لهذه الإنسانة النبيلة الجميلة، واحترامنا لها رفيقة مناضلة نذرت نفسها للناس وللوطن، وتقديرنا لها شخصية مرموقة في عالم المسرح والثقافة في بلادنا. يا لََـلؤم الموت حين يختطف من بيننا من نحب ونحترم.. ويالغدره ووحشيته!، ولقد حبسنا الدمع يوم ودعناها في ذلك التشييع المهيب، لنعود على الفور كل الى موقعه في المعركة المندلعة على مستقبل العراق. المستقبل الذي وهبت الفقيدة قضيته زهرة حياتها، وعصارة مسيرتها الكفاحية المديدة مع رفيقاتها ورفاقها في الحزب الشيوعي والحركة الوطنية، ومع شقيقاتها في رابطة المرأة وعموم الحركة النسوية العراقية. برحيل الرفيقة زكية خليفة فقدنا وجها صافيا آخر لجيل كامل، بل لأجيال من القامات العراقية العالية، نساء ورجالا، ممن كنا ونبقى نرنو إليهم بفخر وامتنان وعرفان. لقد كـُتب لهم ان يرِدوا الحياة قبلنا في هذا العراق العزيز. وقد وجدوها ضاجّة بأسباب الشقاء، الى جانب الوعد السعادة. واكتشفوا فيها معتركا مشتعلا قاسيا، لا يهدأ ضُرامُه إلا لكي يستعر من جديد. وعرفوا في لحظات هنائها العذبة الخاطفة، غاية ً دونها الكفاح المضني والتضحيات الجسام. وكانت مأثرتهم انهم لم يجفلوا، ولم يترددوا.. بل اقبلوا عليها متحدّين، وخاضوها بملء جوانحهم وبصائرهم وعزائمهم، وشربوا حتى الثمالة من مراراتها الغزيرة مثلما تذوقوا حلاوتها الفريدة النادرة.. وأعطوا ما يعجز عنه غيرُ الكرام العظام! وما كان أكثرهم! صفوفا بعد صفوف! قوافلَ إثر قوافل! يهبون أرواحهم وقوفا في جنبات الدرب الصاعد، الطويل والقاسي، لتبقى راية الإنسان والحرية والكرامة رفرافة لا تنتكس، خفاقة في السماء!. نقول ذلك ونؤكده، كي يكون واضحا إننا لا نتحدث عن بعض هنا، وأفراد معدودين هناك. فقد أنجب شعبنا، وربّى حزبنا الشيوعي خاصة، المئات والآلافَ منهم. مناضلين أشداء ضد الاستبداد والقهر والظلم، ومن اجل العدل والخير والسعادة لشعبهم. لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا يعرف الخـَوَرُ طريقا الى نفوسهم، متقحمين لا يهابون ولا ينكفئون. وقد خلـّف لنا كل منهم قصة َحياةٍ ونضال وعطاء برّاقة، مفعمة ً بالعبر والدلالات، وحافلة ًببواعث الارتقاء والسمو الإنسانيين، ومشعة أملا متجددا وتفاؤلا لا يخبو. تركوا وراءهم مئات وآلاف القصص، التي ما زالت في انتظار من يعود اليها ويجمع قصاصاتها ويدوّنها، ويحيلها مصابيح تنير في أجيالنا الجديدة النفوس وأمامها الدروب، ومن يثري بها مكتبتنا الوطنية التي عاثت بها حكومات الاستبداد والظلام فسادا وإفسادا، وعملت فيها تشويها وإفقارا. وهؤلاء من كانت فقيدتـُنا واحدة من أقليتهم المحظوظة، التي قـُيّض لها ان تـُسعد بأمرين: ان يطول بها العمر لتكحّل العين برؤية السقوط المدوّي خزيا، لأعتى عتاة الطغيان والهمجية في بلدنا.. وانطلاق المسيرة الجديدة للعراقيات والعراقيين الطيبين الأوفياء، نحو حلم الحرية للوطن والسعادة للشعب. وان تموت ميتة طبيعية، كريمة، على الفراش، وليس ظلما في سوح الإعدام او على أعواد المشانق، او في أقبية التعذيب وزنزانات السجون، على أيدي الجلادين والسفاحين. هؤلاء وأولئك جميعا.. من نتذكرهم اليوم في شخص الرفيقة الغالية الراحلة زكية. ومن نحتفل بهم إذ ْ نحتفي بها انسانة، ومناضلة وطنية، ومكافحة نسوية، ومبدعة ً مسرحية. هؤلاء من جيل الرفيقة زكية، والجيل الذي سبقه، والآخر الذي تلاه.. هم من لا ننساهم! هم من تحول رحيلهم، القسري غالبا – بأيدي القتلة والجلادين، ويتحول الى دافع دامغ لبقاء ذكراهم مقيمة نابضة في قلوبنا وعقولنا وفي ضمائرنا على الدوام. سنتذكر الفقيدة العمة زكية، ونتذكرهم جميعا، في كل حين نتذكرهم ونذكـّرهم بأننا على العهد باقون.. بأننا لن نحيد عن درب الخير والنور والجمال الذي لوّنوه بكل ما وهبوا.. وما اعزّ وأزهى ما وهبوا! كلمة التأبين التي القيت عن الحزب الشيوعي في حفل تأبين الفنانة الراحلة
زكية خليفة مناضلة من طراز خاص
نشر في: 24 مارس, 2010: 06:22 م