يوسف عبد المسيح ثروتكان لمسرح سارتر وما يزال تأثيره العاصف في المسرح العالمي، فخلال العقدين المنصرمين تمكن هذا المسرح من التسرب الى اذهان الكتاب والمشتغلين في هذا الحقل الحيوي والجمهور على حد سواء ولعل مرد ذلك هو قدرة سارتر على معالجة قضايا العصر معالجة صريحة ولذعة اسلوبه، وطاقته الدرامية العميقة الشاملة، ولغته الخاصةشن وفلسفته الوجودية التي تعبر جديا عن مأساة انسان القرن العشرين، في شكل ومضمون متميزين.
ومع ان مفاهيمه العامة اثارت غبارا كثيفا من الجدل، في الفلسفة والتعبير الادبي واساليب التناول، فان هذا كله شد المفكرين شدا الى بؤرة تفكيره، سواء اكان هؤلاء المفكرون من الفلاسفة أم من النقاد، أم من كتاب الاجتماع أو علماء النفس، ام من المهتمين بالقضايا الادبية او المسرحية، ذلك ان سارتر، الرجل الذي اندمج في المقاومة الفرنسية اندماجا كليا، بعد غزو فرنسا، استطاع بما وهب من حاسة مرهفة ان يربط بين هذه المقاومة وبين انهيار الطبقة التي تسببت في هزيمة فرنسا، بمساوماتها مع العدو وانخذالها تجاهه وتعاونها معه بعد خيانتها واجتياحه لارض الوطن. وقد كان من ثمرات هذه الحاسة ثلاثيته المشهورةدرب الحرية) التي حلللت تفاهة العقلية البرجوازية واسقطت قناعها ، وفصلت بكل دقة مدى انحدارها في اهواء ذاتيتها، انانيتها ، قمأتها وسفالتها ، ومدى ما كان لهذا الانحدار من تأثير كبير في نفسيتها وفي مجمل سلوكها، وتصرفاتها وما ترتب على ذلك من انهيار عام في حياتها وشلل في فعالياتها والطابع الرئيس لكل هذ السمات المشوهة هو ايجاد انسان معين غير ممكن الوجود الا في الجو الفرنسي المكهرب الذي حاول سارتر ان يرسمه بكل ما يستطيع من صراحة وقوة، في وضعه للقسمات وفي تخطيطه لها وعرضها عرضا امينا وتشديده لما برز منها وتوضيحه لمتناقضاتها وتبريره للتيارات الخفية والظاهرية التي تتغلغل فيها وتتسرب تحتها وتنضح منها وتطفح عليها، ان ايجاد مثل هذا الانسان لم يكن من ابداع سارتر او خلقه، بل هو كان موجودا قبل ان يوجد سارتر نفسه ولكن سارتر الروائي استطاع ان يلم شمل وجمده المبعثر ليقدمه للقراء وجودا جديدا باسلوبه الخاص الذي لا يجارى فيه، لانه الاسلوب الفريد الذي تمكن منه بعد طول عناية ودراسة وتتبع، واذا كان سارتر عرف بـ (دروبه) روائيا فانه عرف بمسرحه كاتبا مسرحيا افضل كثيرا – على رأي النقاد – من كونه روائيا، وعلة ذلك ، ان التركيز الذي تمتاز به الكتابة المسرحية وفر له الحيز الذي سعى اليه فتمكن من خلاله ان يعرض اراءه وافكاره وفلسفته عرضا متبلورا متماسكا، منسجما مع معطيات عصره وفكره الذي كان انعكاسا متأزماً لعصر متأزم ، دراما مصورة للعصر الدرامي المتشنج ، ظلا قلقا لفترة كلها قلق وتغلغل وجها مشوها لجسم كله تشوبه. البرجوازية الفرنسية التي عرفت بخيانتها الذليلة لم يكن لها من طريق بيتان ولا فال ومن قبل رينو غير ان تركع امام اقدام الغزاة بجزماتها العالية ومشيتها الاوزية المتناسقة المعربدة المتعجرفة كل ذلك كان لابد ان يقع وقد وقع فعلا لان البرجوازية التي كانت اجبن من الارانب حيال فورة الطبقة العاملة كانت سليلة برجوازية كومونة باريس عام 1871حينوجدت نفسها بين فكي الرحى، بين ان تستسلم لثوار الكومونة او تتفق مع عساكر بسمارك ونولكه على دك معاقل الثوار الفرنسيين الذين ارادوا لفرنسا ما لم ترده البرجوازية من مصير فكان للاخيرة ما ارادته ولو عبر الخيانة والتنكر لمقدسات الوطن، ولو على الاكوام الهائلة من ضحايا الوطن الابرياء الذين استساغوا الموت مع الكرامة والشرف ، بينما استساغت البرجوازية الحياة مع الخيانة على حساب كرامة الوطن مع الجبن والوضاعة وخسة الذات ووأد الحرية من اجل ان تثبت البرجوازية الحديثة اصالة تمرغها ومكانة شرفها وصفاء محتدها، وصلتها الصميمة بسلفها باعتبارها خير خلف لخير سلف، كان لابد لها ان تسير على طريق برجوازية (ميتر) و(غيزو) كيلا تنقطع الطريق وتتبعثر المعالم وتمحى الاثار، كيلا ينفسح المجال امام ابناء فرنسا الحقيقيين ليأخذوا امكنتهم اللائقة بهم في قيادة سفينة الامة. تلك البرجوازية التي رأت بأم عينها انهيارها السريع المتوقع الذي لا مفر منه، كيف لها ان تؤمن بما آلت اليه، بحكم الواقع والتاريخ وبحكم تكوينها العياني المشخص؟ كيف لها ان تصدق بافلاسها وضياعها وتبعثرها؟ كيف لها ان تطأطئ رأسها لمشيئة التاريخ فتزحزح عن مركز ثقلها ليحل محلها الرعاع اصحاب (الايدي القذرة)؟ ..اذن لابد من فلسفة جديدة تعويضا عن الفلسفة النخرة، فلسفة (الاخاء والحرية والمساواة) التي تبنتها في عشية الثورة الفرنسية الكبرى. وبما ان البرغسونية قد اثبتت افلاسها، بافلاس البرجوازية –في الحرب العالمية الثانية – فليس من مجال فكري يحوطها بالعطف والرعاية غير المجال الجديد القديم –مجال التومائية الجديدة من جهة والوجودية بنوعيها :الملحدة والمؤمنة من جهة اخرى.. وهكذا انبثقت الوجودية، تلبية تاريخية لهذا المطلب الملحاح الذي ينبعث كعواء الذئب الجريح من خواء الوجود البرجوازي الابح. ولما كان العلم والعقل من الد اعداء الطبقة التي استندت اليهما، في الوصول الى دست الحكم بفعل طفيلية هذه البصيرة النفاذة، اللاشعور والحاسة السادسة، ولنبحث عن الانسان من جديد، على ان نفصل هذا الانسان من مجتم
مسرح سارتر والوجود الانساني
نشر في: 26 مارس, 2010: 04:31 م