شاكر لعيبيrnبعض الاتجاهات المعمارية سميت أصلاً "بالوظيفية" وخير من يمثلها المعماريّ والمنظّر النمساوي أدولف لوس (1870-1933) الذي رفض بشكل قاطع أي نزعة زخرفية، جمالية حتى أنه كان يفصل بين (الشيء العملي) و(الشيء الفني)، وذهب إلى القول إن "العمارة ليست فناً: إن أي شيء يؤدي إلى منفعة يخرج من دائرة الفن"، كما كتب مقالاً عنوانه "الزخرفة والجريمة"
زعم فيه أن العمارة والفن يجب أن لا يحتويا على زخرفة البتة معتبراً ذلك من نوافل "العادات الهمجية" على حدّ تعبيره. وقد عبَّرت أعماله المنجزة بعد عام 1908م عن هذه الفلسفة، ومن أشهرها بيت ستينر 1910م في ضواحي فيينا. من باب المفارقة العميقة أن أدولف لوس أنشأ عام 1926من أجل الشاعر السوريالي تريستان تزارا بيتنا (15 جادة جونو في باريس) يختصر مساره المعماري حيث جوهر العمارة الحديثة، بالنسبة إليه، لا يقع في ملاحة- لكي لا نقول جَمَال- العناصر التي تؤلف البناية، فلا شيء من الزخرف ولا شيء البتة من الفنتازيا، لكن يقع في جمال الأشكال الصافية والعلاقات التي تترابط فيما بينها عبر الأحجام. للعمارة، حتى العمارة ذات المستوى الجمالي الرفيع، وظيفة على الدوام. يحدد نيتشه العمارة بأنها "نوعٌ من كنيسة صغيرة للقدرة المزوَّدة بأشكال"، لأن "قوة الإرادة، بالنسبة إليه، تتمظهر عبر العمارة". وفي هذا الوعي النيتشوي للعمارة لا مكان بالطبع للزائل والمؤقت والهش خاصة.يُمْكن للشعر، مع فوارق في لغة التعبير، أن يكون تمظهراً لقوة النظام اللغوي والإيقاعي ومظهراً للبناء اللغويّ المتماسك والفصاحة العالية، لكن أيضاً مظهراً للضعف الداخليّ، وكان الكثير منه مصنوعاً ضمن منطق الحياكة المناسباتية الهشة الذي ذهبت به أدراج الرياح ومجاهل النسيان.يبدو لنا أن المتن الشعري الرفيع يمسّ المترجرج في الكائن الإنسانيّ. يمسّ الجوهر القلِق الذي هو في طبع الكائن غالباً. إنه يمسّ الموضوعات الكبرى التي تتجاوز الآني: الحب، الحياة، الموت، الشيخوخة، الأيروس، الخيانة للذات وللآخر.... إلخ. يمسُّها بقوةٍ قوية ولو زعم أنه يتناول حدثاً عابراً، حتى أن اهتمامه بالزائل والمؤقت قد يكون ذريعة لقول المؤبد والدائم. إنه يستخرج الدروس الكبرى من الهفوات الصغرى في الوجود. وهو يتأرجح تأرجحاً درامياً بين الأدنى والأقصى في الوجود.هل تستطيع العمارة تأرجُحاً مثل هذا؟.لو فعلتْ فإن إشاراتها للأدنى والأقصى قد لا تبدو من العنفوان والحميمية التي يفعل الشعر بها، خاصة إذا انطلقتْ منذ البدء بصفتها شرطاً سكنياً فحسب حسب هايدجر، أو كتعبير عن إرادة القوة وفق نيتشه. إنها تكتب الوجود بمفردات ملموسة ذات علاقة محسوبة حساباً، مع الفضاء وضمن استهدافات مخصوصة للغاية. لو أنها لا تفعل، من جهة أخرى، لانهدمتْ مجازياً وواقعياً. لن تكون والحالة تلك عمارة بل نحتاً.أن يضع المرء الشعر في مواجَهةٍ وتقاطُعٍ مع العمارة بالشكل الذي نضعه فيه، يريد فحسب (تظهير الصورة) بتناقضاتها ومفارقاتها. ولا يستهدف (تمزيقاً للصورة) التي تمتلك مثل أي صورة وحدةً داخلية مهما كانت حدة التناقضات بين عناصرها المكوِّنة. يتواجَه فن الشعر مع فن العمارة أحياناً بمرارة لكنهما يتقاطعان بجسارة وبطريقة غير متوقعة.إن عوالم المخيلة الجامحة والفنتازية ليست على الإطلاق حكراً على الحركة للسوريالية التي قرأنا تعاليمها منذ "البيان السوريالي" الأول عام 1924، بل ليست حِكْراً على من وُضع من السابقين على الحركة في إطارها (لوتريامون ورامبو ورايمون روسيل والفريد جاري وأدغار آلان بو وغيرهم). لقد وُضعوا فيها لأنهم بالضبط قد اختطوا عالما ينتهك المنطق المنطقيّ ويقترب من المجهول الباطنيّ عبر صُوَرٍ ورُؤى غريبة. إذا ما قبلنا اليوم، عالمياً، فكرة أن المفردة سوريالية قد نحتت على يد الشاعر الفرنسي أبولونير عام 1917 من (sur) و(réalisme) بمناسبة حديثه عن بيكاسو ، أي من (فوق أو على) و(الواقع أو الواقعية): ما هو فوق الواقع. فلأن هناك محاولات مستمرّة في تاريخ الفن والأدب لملامسة هذا (الما فوق) عابر الواقع. لم يكن بالإمكان بلورة مفهوم متفق عليه إلا بعد وقت طويل، في بداية القرن العشرين، بسبب التراكمات المعرفية والرؤيوية. قبل ذلك كان يجري، في الأعمّ الأغلب، هجس (الما فوق) دون قدرة على صياغة واضحة ودقيقة له. هناك المزيد من الإشارات في تاريخ الأدب والفن على حضور (ما فوق) غريب عصيّ على الإمساك. في الثقافات العالمية كلها على ما يبدو هناك نصوص تلمِّح أو تشير إلى ما فوق الواقعي. لو بقينا في الإرث العربي لالتقينا بشذرات سوريالية فريدة لدى "السورياليّ الأوّل: أبو العبر الهاشمي (ت 862م)" وغيره، ولقرأنا نص إخوان الصفا عن قوة المخيلة القائل:"مثال ذلك إن الإنسان يمكنه أن يتخيل بهذه القوة جملاً على رأس نخلة، أو نخلة ثابتة على ظهر جمل، أو طائرا له أربعة قوائم، أو فرساً لح جناحان، أو حماراً له رأس إنسان، وما شاكل هذه مما يعمله المصورون والنقاشون من الصور المنسوبة للجن مما له حقيقة ومما لا حقيقة له" (الرسائل، ج3ص416). لقرأناه على أنه نوع من خيال سوريالي متقدِّم. وهو يجعلنا نتقدّم خطوة جديدة باتجاه الفن المشتغِ
تلويحة المدى :الخيال في الشعر والخيال في العمارة - (3)
نشر في: 26 مارس, 2010: 05:18 م