انيس زكي حسن من رأى الكوفة منذ خمسة اعوام ورآها اليوم رأى ولمس معجزة جبارة وقفزة هائلة في مضمار التقدم والرقي والازدهار..فقد كانت قرية صغير تحاذي شاطئ الفرات، طرقاتها وعرة وبيوتها صغيرة غير منتظمة، تشرب من ماء النهر مباشرة ويتطبب اهلها في مستوصف صغير متواضع ويربطها بمدينة النجف الاشرف خط متهدم تسير عليه عربات (ترام) عتيقة تجرها الخيول..
وتزورها اليوم فلا تعبر الفرات على الجسر المتداعي الذي ينهض على الطوافات وانما تشرف عليها من علياء جسر شامخ حديدي متين البناء ضخم الركائز بديع الانوار يبدأ من ساحة واسعة جميلة التنسيق وينتهي الى مرفقين رائعين احدهما نادي المتنبي للموظفين بحدائقه الغناء وهو يقع على اليسار ثم تلتفت الى يمينك فيطالعك مبنى ضخم عال تحيط به حديقة كبيرة وارفة الظلال انتشرت فيها الارائك المريحة هو مستشفى الفرات الاوسط الذي يتسع لأكثر من اربعمائة مريض هم نزلاؤه الان فعلا والذي يخدم الانسانية فيه اطباء وجراحون واختصاصيون بالعشرات وموظفون صحيون بالمئات وادوات حديثة بالالاف.. فاذا انعطفت ناحية اليمين ايضاً وجدت نفسك في شارع مطل على النهر مسلح بسداد متين ومزين بأشجار الصفصاف قد يزيد طولا على شارع ابي نواس في بغداد او على كورنيش البصرة الشهير! وعلى جانبه الاخر تقوم الحياة الاقتصادية بمعاملها ومخازنها وتجارها وصناعها بينما تشمخ السفن النهرية بأشرعتها  والبواخر النهرية باعلامها  المرفرفة على صفحة النهر وهي تحمل خيرات العراق من المزارع والبساتين الى المستهلكين في الداخل والخارج. ثم تصغي فتسمع ضجة الالات وصخبها وتطالعك خزانات هائلة واحواض جبارة فاذا سألت قيل لك هذا اضخم مشروع لاسالة المياه في الشرق الاوس! وتسير حتى تشم عبير الحقول وتسمع هسهسة السنابل وتصغي الى صرير دواليب النواعير فتتنسم عبر حياة الفلاح الحرة الكريمة وتحس حولك بالعمل المنتج ما بين حارث وزارع وقاطف أو اعرابية تقود قطيعاً من الماشية الى النهر.. وفي تلك المنطقة الهادئة يقوم القصر الملكي في الكوفة جميل البناء واسعاً غارقاً بين الحدائق والاغصان المثمرة.. ثم تترك الشاطئ وتتغلغل في شارع واسع رائع تتلألأ فيه مصابيح الفلورسنت الهادئة وتحضنه البساتين واشجار النخيل والبرتقال بلطه مجلس الاعمار بأحدث الالات الفنية وزوده الذوق العراقي البديع بالساحات والارصفة على احدث طراز واجمل تنسيق، ثم تجد نفسك بين مئات من الدور المخططة التي ينهمك اهلها مع العمال في بنائها لهم ولمستقبل اولادهم  بعد ان شجعتهم الحكومة بمشاريعها الضخمة الرائعة فخلقت لهم منطقة واسعة جديرة بالسكنى حتى امتدت الكوفة فاتصلت بمسجدها العظيم المشهور الذي كان امير المؤمنين علي بن ابي طالب رضي الله عنه يتدفق من اعلى بحكمه المآثورة وعظاته الرائعة. وتجد نفسك في ساحة واسعة جدا تنتهي اليها جميع الشوارع وتلتمع فيها الانوار تتوسطها روضة مزدهرة ويطل عليها مسجد الكوفة الشهير بواجهته الرائعة التي ما يزال الصناع المهرة يعملون فيها مدفوعين بدافع الايمان والضمير الانساني الذي تثيره فيهم مشاعر الدين النبيلة الرائعة قبل دافع الاجر، ثم تنطلق من اعلى المأذنة صيحات المؤذن تسبح لله وتدعو الناس الى الصلاة فتشعر وكأنك قد ابتعدت عن هذه الحياة الدنيا وعشت في عالم اخر من الوئام تحتضنه السعادة، ويشيع فيه الاطمئنان والرضا. rnوفيما انت مسحور بهذه وذاك من المناظر الرائعة الاخاذة ترى من حين لاخر تلك السيارات الجميلة الحديثة التي تمتاز بارائكها المريحة ونظامها البديع وهي تنقل الناس بأرخص الاثمان بين الكوفة والنجف الاشرف وتسأل عنها فيقال لك انها تابعة لمشروع الباصات الجديد الذي انشأته الحكومة..  ولقد تعود الى صميم الكوفة فتجدها في اعماقها قد حافظت بعض المحافظة على اساليبها القديمة فترى باعة الاقمشة يملأون الاسواق وهم يتربعون على السجاد الثمين بين اكداس اقمشتهم الزاهية الجميلة الى جانب ذوي المهن الاخرى. وتحس ايضا وانت ترى ان العمل ما يزال قائماً هنا وهناك انك يجب ان تعود الى الكوفة بعد اشهر لترى كيف تتمشى الروح الجديدة فيها وكيف ستصبح الكوفة بين عشية وضحاها مدينة تضارع بجمالها وتنسيقها ومرافقها اجمل مدن العراق. اما انا فقد آمنت بان العراق يبني المستقبل وبان في العراق شعباً سيصل بهذه الروح وهذا الاصلاح وهذا العهد الجديد الى ارقى درجات الرقي الاجتماعي.من مجلة اهل النفط في عددها المرقم 48 والصادرة في عام 1955