محمود عبد الوهاب أفترض ، هنا ، أني أحاول فهم التباين في قراءة العلامات، بين علامة استجابة الرائي إلى الأشياء المنظورة ،وعلامة قراءة النصوص ، مع الإقرار بأن الاستجابة إلى الأشياء وقراءة النصوص ينتسبان كلاهما إلى حقل معرفي واحد ، هو القراءة والتلقي أو القراءة والتأويل . وعلى ما هو متداول في تحديد مفهوم العلامة بأنها " شيء يقوم مقام شيء آخر " ،
ومع صواب هذا التعريف للعلامة، فإن العلامات تأتي متفارقة في إشاراتها وطبيعتها ، فعلامة " الاستجابة إلى الأشياء " تكمن في " المكانية " مثل منزل مرئي أو شجرة أو سياج ، ما يستنهض مستودع الرائي وخبرته ، ويستدعي ماضي الذات الرائية ومكنوناتها في حوار مكتوم حاضر بالاستذكار ، في حين تكون علامة قراءة النصوص هي " الكلمة في سياقها " حافزاً إلى القراءة والتأويل . اختلاف العلامتين ، في الاستجابة والقراءة ، يلغي أحاديتهما في الدلالة ، كما يلغي تعادلهما في ما تشيران إليه أيضاً . الاختلاف في نوع العلامة يرتبط أيضاً بقوة إثارتها للرائي أو القارئ وتحفيزها لهما ، فشدة العلامة ووهنها يحددان فاعلية الاستجابة إلى الشيء ، وفاعلية التلقي في القراءة . صحيح أن لثراء المتلقي في خبرته أو فقرها دوراً في الاستجابة إلى الشيء وإلى قراءة النصوص ، غير أن للعلامة / المثير دوراً إضافياً للتحفيز ، أضف أيضاً أن الاستجابة إلى الأشياء هي قراءة حرّة وذاتية ، من دون سطوة عليا خارج ذات المستجيب ، على غير ما هي عليه سلطة الكاتب في تقنيـن السنن والقرائن في نصوصه ، فقارئ النـص مهما بالغنا في دوره التأويـلي لا يصح له أن يلغي قصد المؤلف كلياً، مهما كانت خصوصية العلامة في النص المقروء وقدرتها على فاعلية التأويل ، ومن هنا ، تكون قراءة النصوص مقيّدة ، في حين تكون الاستجابة إلى الأشياء حرّة وذاتية كلياً . كتاب " جماليات المكان " لفيلسوف التأمل الجمالي "باشلار" هو كتاب نوعي في دراسة المكان، متخذاً من انطولوجيا المكان ، عنصر استجابة إلى الأشياء في ضوء البحث الظاهراتي وارتباطه بالصور الشعرية والخيال ، " فالأشياء تتحدث إلينا ، وإننا إذا أصغينا إليها بجدٍ فإننا نقيم تواصلاً معها " . وفي المعنى نفسه، يؤكد باشلار " أن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لايمكن أن يبقى مكاناً لا مبالياً ". يستعرض باشلار في كتابه، الاستجابة إلى جماليات البيت ، الحجرات السريّة ، بيوت الأشياء : الأدراج والصناديق والأعشاش والقواقع . إن الاستجابة إلى الأشياء تمنح الواقع إضافات ملأى بالثراء عبر الاسترجاع والخيال ، كُتُبُ باشلار بعد جماليات المكان، بحث ظاهراتي عن الماء والنار والأحلام والهواء والاسترخاء والأرض وتهويمات الإرادة والأرض وحلم الراحة ، كلّ هذه الكتب تنغرس جذورها في تراب الحياة اليومية ، وذات صلة حميمة بأشياء الطبيعة والاستجابة إليها .في وارشو زرتُ بيت " مدام كوري " ، البولونية الأصل، الذي أُتخِذ متحفاً يضمّ أدواتها وحاجاتها ورسائلها إلى زوجها الفرنسي " بيير كوري " ، تلبسّني المكان ، كأنني أعيش في الزمن الذي عاشت فيه مدام كوري، رسائلها أمامي مطوية في خزانة زجاج ، أحدّق إليها وكأنني أسترجع الزمن الذي كتبت فيه مدام كوري تلك الرسائل ، بل كنت أحسّ بلمسات أصابعها على الرسائل ، كانت استجابتي إلى تلك الأشياء صوراً متتالية باستدعاء حرّ وابتداع أخيلة باهرة بانسجام تام مع لاعقلانية تلك الخيالات . في وارشو أيضاً ، وفي إحدى ضواحيها زرت بيت الموسيقار الشهير " شوبان " ، كانت رائحة جو حجرته تعيد إليّ الزمن الذي عاشه شوبان . صور شوبان معلّقة على الجدار ، صبياً ، شاباً ، ورجلاً مكتملاً . في زاوية من حجرته ، كان كهلٌ بدين ملتحٍ ورديّ الوجه، يضرب على بيانو شوبان نفسه . في أحلام يقظتي ، وفي استجابتي إلى هذا الجو ، كنت أرى أن تلك الحجرة هي المكان الوحيد ، وخارجها سديم ممتدّ لا نهائي . ما زلتُ في الاستجابة إلى الأشياء أيضاً، مرة ثالثة في وارشو، في ضاحية منها ، زرتُ معتقلاً نازيّاًُ ، حاولتْ إدارته الاحتفاظ بكل ما فيه كما هو كائن في ذلك الزمن . أفرشة المعتقلين على الأرض تمتد كما لو كان جسد المعتقَل راقداً بطوله الآن ، الغطاءات ملمومة تحت قدميه ، نعلاه إلى جانبه ، اسمه ملصق في القائمة على الجدار ، كان أحدهم مصرياً كما أتذكر ، المكان يرهب زائريه ، كان المكان معادياً وخصماً، كلّ ما يحيط بي يبعث على الاستيحاش والفرار من المكان .وما زلت في الاستجابة إلى الأشياء .في تشيكوسلوفاكيا ، وعلى مبعدة من براغ ، تقع كارلو فيفاري ، وهي ضاحية صغيرة على جانب من ضفاف نهر يترقرق ماؤه دائماً ، يمتد على جانبيه جسر نحيل أبيض كأنه صنع من عاج ، قبل أن أعبره ، ومن بعيد ، تأملت كارلو فيفاري ، مدينة المهرجانات والمصحّ الذي يقصده المرضى ، تأملت المكان ، كانت كارلو فيفاري تخلع ألوانها كلّ لحظة، والجسر العاجي يلتمع في الضوء الشحيح الباهت من الشمس ، فجأة انطلقتْ من روح المكان ، ولا أدري كيف ، صورة كارلو فيفاري كأنها بطاقة تهنئة ، أنيق
اوراق :الاستجابة إلى الأشياء
نشر في: 30 مارس, 2010: 06:21 م