شـــاكـر لـعـيـبـيعندما يموت شعراء العراق الكبار في المنفى واحداً واحداً، وعندما يُقتل اليوم الشعراء قتلاً في داخل العراق فإن الكارثة التي قاد النظام البلد إليها تبدو من دون مثيل في التاريخ المعاصر للعالم العربي. إن قتل الشاعر الرائد والزاهد الكبير محمود البريكان بهدف السرقة كما يُقال، يشير إلى أن السواد قد جرى تعميمه في كل مكان من أرض السواد.
هنا واحدة من نتائج تعميم الجهل والأمية وتسييد قطاع الطرق والمافيات المنظمة والإرهاب الصريح وتسليط الجُهال والرعاع على رقاب الناس في كل بقعة من أرض السواد. لا يُستثنى أحدٌ في شرط كهذا، ولا كرامة لأحد في وضعية مثل هذه الوضعية. لا قيمة أخلاقية وإنسانية لموضوع أو لكائن. إن الحكم للقوة وحدها التي تصير القاعدة الأساسية للنظام، ويبدو أن الاحتكام للعنف وللقسوة يصير، بعد ثلاثين سنة من هيمنة مبدأ القوة، القاعدة المطلقة غير المعلنة لقطاعات وشرائح وفئات غير قليلة في الداخل كما لفئات من (بعض) الخارجين مؤخراً للمنفى. لقد صح أن الشاعر الكبير محمود البريكان قد قُتِل بقصد السرقة، ولم يتعرض (لحادث مؤسف) كما يذهب اتحاد كتاب السلطة الذي لا يمتلك ذرة من الحياء وهو يلقي بهذه الجملة الملتبسة التي توحي بتبرئة (الوضع العام) المسؤول الأول عما يحدث. لقد صحَّ تعرض البريكان لجريمة نكراء أودت بحياته، وها هنا ما تورده جريدة (الخليج) الإمارتية بتاريخ 5/3/2002، عن هذا الموت الفاجع: "جمعة حزينة عاشها أهالي البصرة إثر علمهم بتعرض الشاعر محمود البريكان لجريمة قتل مصحوبة بسرقة منزله الواقع في حي الجزائر ليلة الخميس الماضي. وأكد شهود عيان لـ (الخليج) أن نجل الشاعر (ماجد) البالغ من العمر 15 عاماً والذي يعيش مع أمه الشاعرة عدالة العيداني الزوجة الثانية للراحل أول من علم بالحادث، لأنه اعتاد زيارة أبيه، فوجده ملفوفاً بغطاء سميك وأبواب المنزل مفتوحة. وأضافوا أنهم سارعوا بإخبار رجال الشرطة بالحادث.. وظهر أن الشاعر قد تعرض لطعنات بآلات جارحة في مواقع شتى من جسمه مع سرقة جهاز فيديو ومبالغ بالعملة الأجنبية لم تحدد قيمتها. وذكروا أن شقيقة الشاعر البريكان سارعت بدفن الراحل في مقبرة الزبير المدينة التي ولد فيها في العام 1931. من جهتها قالت الشاعرة عدالة العيداني طليقة الراحل في حديث خصت به (الخليج) أن بشاعة الجريمة شيء لا يمكن وصفه، الأمر الذي جعل ابنها يفقد وعيه من بشاعة المنظر الذي شاهده، وأكدت أن مكتبة الراحل وأوراقه ووثائقه ظلت في مكانها..". أنتهى الخبر. بعد أن انتهبوا ثرواته الطبيعية، ولجموا طاقاته الحرة، وعاثوا فساداً بإرثه الروحي ودفعوا بخمسة ملايين عراقي إلى المنافي وفرَّطوا بسيادته، ها هم اليوم يخلقون (وضعية مثالية) لقتل جميع الناس حتى الشعراء منهم. وإذا كان بيان اتحاد أدباء السلطة المهلهل نفسه لا يقول لنا أن البريكان قد مات ميتة طبيعية، فإنه يؤكد لنا بصراحة قوة موجات الانفلات التي قادوا مجتمعنا إليها. أمام التواضع الجم والزهد الصوفي الحق للبريكان، فإن كل أبهات دولة صدام وعلى رأسها السيجار الكوبي، لتبدو محض ترهات وصغائر وتفاهات، ويبدو مقتل الشاعر المأساوي وكأنه إعلان رمزي دال وغير مباشر عن يوم قيامة النظام وهزيمته الروحية. هذه الهزيمة هي التمهيد الجذري للهزيمة الفعلية اللاحقة التي ستحل به. سيجد البعض في مقاربة مقتل البريكان الغامض وبداية النهاية للنظام نوعاً من الإفراط، ونحن لا نجد لأن التدهور في دولة القتل هو من ذات الطينة على كل صعيد، وأنه يلقي بتعبيراته في الوقائع الصارخة الكبرى كما بتلك الخفية مثل موت الشعراء في المنافي أو مقتلهم بطريقة غامضة في بيوتهم. إن تجليات إرهاب الدولة في العراق (ونحن العراقيين كنا نستخدم مفردة الإرهاب قبل ضجيجها في الإعلام مؤخراً) لا يعلن عن نفسه فحسب بفجاجة وصراحة وفظاظة ولكنه يظهر كنتائج بعيدة تتجلى بانفراط اللحمة الاجتماعية والأخلاقية في البلد. يبدو المشهد العراقي في العشرين سنة الأخيرة مشهداً كابوسياً. مشهدٌ من طبيعة الأحداث الفظيعة التي قرأناها في كتب التاريخ الوسيط عن أحلك الظروف وأشدها غرابة.كنا نظن أن مقتلة المتنبي لن تتكرر، وأن مأساة الحلاج لحظة عابرة، وأن أحزان الشيعة عرض من الأعراض، وأن جلد ابن حنبل العظيم هفوة نادرة..وغيرها. سوى أن موت الجواهري بعيداً عن سمائه الأولى، والبياتي منفياً على سريره الهزاز الدمشقي، وبلند الحيدري ضائعاً في الضباب، وموت السيد جمال مصطفى في غير تراب أجداده، وعزيز السماوي مغشياً بظلام غير ظلام العراق، وغيرهم تقول لنا، ويا للأسف، عكس ذلك. إن فواجع الشعراء والمفكرين لتتكرر بمرارة في العراق. إننا لا نتمنى أن نرى الدورة السوداء تعاود نفسها في بلدننا الجميل، المُضاع، المضيَّع. آخر أمر كان يخطر على البال هو أن يُقتل رجلٌ مسالم، لا يحب الأضواء وينأى عن أحابيل الشهرة وألاعيبها مثل محمود البريكان. لكن ما حدث يُلقي على الذهن المنطقي مفارقة جديدة من مفارقات العالم. مفارقة لا تُحَلُّ إلا برؤية مقتله ضمن الشرط الغرائبي المودي حتماً إلى كل تناقضٍ، مثل الشرط الذي وضع نظام القتلة البلد في مأزقه. كل تفسير لا يأخذ هذا العنصر بعين الاعتبار سيستخفُّ بالكائن الآدمي المحاصر في بلدننا. عندما قرأت نبأ مق
عن مقتل الشاعر محمود البريكان...كأنني أجد نفسي فجأةً مقتولا في الحجرة
نشر في: 31 مارس, 2010: 05:03 م