فوزي كريمعادة ما أحسن الحوار مع قصيدة البريكان. السياب، صلاح عبد الصبور أيضاً. هناك أصوات شعرية أتابع قصائدها باهتمام أيضاً. أُصغي لها، وأتأمل فيها. ولكنني لا أطمع بحوار داخلي معها. لا لأني غير راغب لسبب شخصي. بل لأنها تنأى عن ذلك بفعل رغبة للحوار مع التاريخ، مع الحدث، مع الخارج. القصيدة التي تشكل مائدة حوار داخل الشاعر هي وحدها القادرة على تشكيل مائدة حوار مع قارئ مثلي. ونحن نعرف أن قصيدة تُقرأُ من قبلِ قارئين تصبحُ، بصورة من الصور، قصيدتين.
البريكان شاعر قد ينشغل بالتاريخ، ولكن فقط لكي يحسن الانفلات منه. في أواخر الخمسينيات كتب عدداً من القصائد عن السجن. كان سجنه حقيقياً، ولسبب مرتبط بمرحلة وحدث وموقف. مرتبط بمكان وأشياء غاية في محليتها: "هواجس عيسى بن الأزرق..."، "أغنية من معتقل المنسيين". ولكن السجن داخل القصيدة تجرد عن مرحلتِه، حدثِه والموقفِ الذي وراءه. تجرد عن المكان وأشيائه. تجرد عن الشخص كاتب القصيدة، ليحلّ مكانه الشخص داخل القصيدة. كل ما يبدو حواراً، صراعاً مع التاريخ تحول إلى حوار، صراع في عالم الشاعر الداخلي. طريقُ رحلة القطار إلى السجن بدا له طريقاً أبدياً:أعرفهفهو طريق موحش سحيقولم تكد تبتدئ الرحلةوبالرغم من أن البريكان كاتب القصيدة إلا أنه لا يكاد يبين فيها. ينأى بقصدية عالية عنها، ويحلُّ بدله صوت داخلي آخر، يرصد عبر المخيلة وحدها مشهداً وكأنه يخطر في عدسة كاميرا محايدة. في واحدة من قصائده يكتب الشاعر البرتغالي بيسّوا:يقولون إني اختلق أو أكذبفي كلّ ما أكتب. لا حقيقة في ذلك.كلّ ما في الأمر إني أشعر عن طريق التخيّل.لا أمس أوتار القلب من أجل ذلك.......المشاعرُ؟ كفيلٌ بها القارئ[1].rnقصيدةُ البريكان تبدو وكأنها لا تُريدُ أن تشعر. إنها ترصدُ، عَبر المخيلة، مشهداً وبحياد. ثم تفتح للقارئ فرصةَ المشاعر واسعة. ولكن بيسّوا يشير إلى مشاعر عبر التخيل، فهي وليدةٌ منه. هل تأخذُ هذه الإشارة بيدي إلى مشاعر مخيلةِ البريكان؟ مشاعر لا تنتسب لي كقارئ. مشاعر لا أحسها أنا عبر مداعبة القصيدة لأوتار قلبي؟المدهش أن البريكان ("أنا" الشاعر فيه) لا يكاد يتراءى في قصائده. حتى المبكرة منها. نسمع صوتَ الشاعر عالياً فيها، ولكن بمحاولة لا تخفى من التستر والمحايدة. الراصدُ للمَشَاهد المتتالية عدسةُ كاميرا محايدة (بلا تقعّر أو تحدّب، هذا إذا فهمنا من هذين معنى الرؤية التي تُشرك المشاعر الشخصية في الرصد). عدسة سينما ترصد ولا تعلق:مهرجانُ المصابيحِلافتةُ المصنعِ الضخمِ ترسمُها نبضاتُ النيونالفراشةُ لا تستطيعُ القراءةَرفّتْ بكل رشاقتِهادخلتْ وهي ترقصُ وانطلقتْ في رحاب المكان.الفراشة ابنة الحقل دخلت حقل الحداثة الصناعية. المشهد يتواصل ليكتمل على ما رصدت الكاميرا، لولا "الفراشة لا تستطيعُ القراءة" التي تبدو مُقحمة. قارئ الشعر العربي الحديث لا بدّ من أنه سيحتاجُ إلى نجدة من الشاعر للتدخل. شعراء كثيرون عودوه على ألاّ يحار. البريكان لا يشغله ذلك. يقدم في الدقيقة الأولى مهرجان مصابيح ولافتة نيون لمصنع ضخم. القارئ يعرف مقدار الوحشة والوحشية والصنعة المضادة للطبيعة في المشهد الخاطف. ويعرف حميمية ورقّة وطبيعية الفراشة، وهي تحتفي، إذ تتوهم، بكل هذا المهرجان الضوئي، رافّةً برشاقة، راقصةً بطلاقة. ثم في الدقيقة الثانية تواصل عينُ الكاميرا المشهد:rn لمحتْ فجوة وانعكاساً من الضوء فانجذبتْ نحوه سقطتْ وسطَ هاويةٍ مُعتمة ورأتْ سلّماً لولبياًوشيئاً كبرج من الصلب، لا قعر له وخيوطَ دخان كبخارِ الصهاريجوالتقطت مدخلاً دائرياً فخفّت إليه إذا نفق من حديد يؤدي إلى نفقٍ من حديد وأحسّت بزاوية الميلِ فانزلقت واستقرت على حامل...البريكان يعرف عن دراية شعرية عميقة وهي أن الصمت، في حينه، أبلغ من الكلام. وأن رصد حركة ما بتجرد بارد، قد ينطوي على حرارة بالغة التأثير. عبارة "وأحست بزاويةِ الميلِ فانزلقت واستقرّت على حاملٍ.." تبدو عبارة نثرية في حكاية على لسانِ أحدٍ ما. عبارة بالأسود والأبيض. ولعل القصيدة برمتها رصدٌ نثريٌّ يتحرك بإيجاز وإيماء أحياناً. ولكن إرادة المخرج وراء العدسة، إرادة الشاعر وراء الكلمات، هي إرادة شعرية غاية في الجدة وعمق الرؤية الحديثة. لقد أبعد البريكان عنه، بإرادة حديدية، بلاغةَ القصيدة العربية المعهودة في القصيدتين القديمة والحديثة على السواء. البلاغة التي تشكل لحمة وسدى المعنى الشعري، وطبقة الصوت الشعرية، والخيال الشعري، والعاطفة الشعرية. هذه العناصر غائبة هنا تماماً. وغيابها لم يخلف فراغاً. على العكس، فقد منح هذا الغياب للبريكان فرصةَ أن يحقق بديله الشعري بحرية وتلقائية وخفة حركة. مشهدٌ وعدسةٌ لا غير، ولكن لكل منهما عناصرَ عصية على كثيرين من الطليعيين. عناصر المشهد غاية في العينية، وعناصر العدسة غاية في الحساسية: "عتلاتٌ مهاجمةٌ/ وكوابس دوّارةٌ/ وأصابع من معدنٍ/ فحزامٌ سريعٌ جرّها فجأة...". تفصيل ماكنة حقيقة مرصودة بحياد، ولكن تتابع التفصيل، لا الحركة، جعل المشهد كاسراً.بهذا المعنى، هل يبدو البريكان مستجيباً لثلاثة من متطلبات تي. أس. إليوت الشعر
البريكان: احتفاء بالإنسان وأشيائه الزائلة
نشر في: 31 مارس, 2010: 05:06 م