شاكر لعيبيطالما سيتساءل المرءُ عن السرّ في نوعين من السردية: سردية حكائية، ذات تصاعد دراميّ متكامل ظاهرياَ، مألوف ومستلَهم من الواقع (أحيانا يسخر الواقع نفسه من دراميته)، سردية باردة لا روح من ظلال الشعر فيها (وليس لغته الصريحة المُقحَمة غالباً)، بشخوصٍ روائية لا هي من صلب الواقعيّ التام ولا هي من طينةٍ مشحونةٍ بالحلم الصافي.
ليست من الأرضيّ بالضبط ولا هي من روح الفنتازيا المحض، إلا في حالات معروفة محترَمة. وبين سردية مُلتبِسَة تريك المحلوم به في صيغة المألوف تماماً، ذات حكاية أخرى واقعيتها بقدر غرابتها، ولغتها تتأرجح تأرجحاً لا يُوصف بين روح الشعر وتقنية النثر، سردية متشظية المَحاوِر ومن دون تصاعُد خطيّ، أحادي، لكن مقنعة بسبب لغتها العارفة بمعجزات اللغة، أكثر بكثير من التلاحم والتماسك الظاهري في سردية الحكاية الصريحة.في الحالة الثانية نسْرِدُ كما في قصيدة ملحمية: الواقع يظلّ واقعياً لكنه يُشعّ بغوامضه وأسراره. يظل مُشعَّاً بغزارة لا تنتهي. الواقعي مكتمل اللحمة رغم انفراط مظهره، بينما السرديّ مسرودٌ عبر ذات فاعلةٍ خلاقة. لا نستعيد البتة هنا ما يسمى "بالواقعية السحرية" الأمريكية اللاتينية فذاك شأن آخر، وقع ابتذاله عربياً واجترار بعضه.نتكلم عن (الشعرية) في الرواية قدر ما نتكلم عنها في فيلم سينمائي ساحر: لا يتعلق الأمر باللغة وحدها، أي بالمكتوب والمنطوق اللغوي، إنما بالشعرية العامة المتفشيّة في مفاصل عملٍ فني ما، ونظن أن ثمة التباساً يدور في فلكها في الثقافة العربية.عندما يقرأ المرء رواية مارغريت دوراس (عشيق الصين الشمالية) "من ترجمة محمد عزيز الحصيني، إبداعات عالمية 382، فبراير 2010"، قد يجد مناسبة جديدة للتفريق بين ذينيك السرديتين: نحن هنا إزاء سرد ممسوس، لا يتخلى عن التفاصيل لكنه يستثمرها لصالح حالة وجودية جوهرية، عابرة للتفاصيل ومنطوية عليها في آن. وهذه الأخيرة ليست سوى ذرائع وتعلات و"حيل" يمكن الإفادة منها في هذا الضرب من السرد وذاك. يتعلق الأمر في رواية دوراس بمشاعر صبية من أمٍّ فرنسية تعيش في الهند الصينية، سنوات الحضور الفرنسي. فتاة واقعية من لحم ودم وبغرائز، لكن يتملكها غموض مطبق في المشاعر مثلنا نحن بالضبط ، نحن الذين لسنا في عمرها ولا تجربتها ولا فضائها. الواقع والأحداث والأوصاف المكانية مسرودة ضمن ظلال وظليلات مستمرة معيشة عصيّة على الإمساك. التفاصيل تتحوّل إلى كنز ثمين لصالح نقيضها: إنها معبأة بالأسرار وليست من البداهة بشيء. بل إنها ليست من البداهات إطلاقاً، إنما مستودع للأسرار الإنسانية الكامنة في الطفيف والهامشيّ، الجسديّ الحسيّ وغير الجسديّ الروحاني، الملتحمين كما لو في معجزة.تصير الكتابة نفسها رديفاً للمسرود. السرد يغدو مناسبة لا غير لقول ما وراءه، محتفظاً بالتمام بتقنياته وسطوعه ووضوحه وواقعيته الخارجية. في مثل هذه الحالة فالواقعية دائما ذريعة، فهي تمحو التفاصيل من حيث تستجلبها، أيْ تؤوُّلها وتحوِّلها باتجاهٍ آخر مغاير. الكتابة هي الأساس وما عداها – أي القصّ- فليس سوى مناسبة شائقة للكتابة، يستمدّ بشكل مفارِق كل أهميته الاستثنائية منها.إن مفهوم الرواية القائمة على (الحدّوتة) أو الطرفة أو المشاكسة الاجتماعية والجنسية أو المعادلات الذهنية السهلة المُعبَّر عنها عبر أبطالٍ مثاليين أو هامشيين، يحتاج في الروايات العربية الوافرة اليوم فحصاً ينطلق، على سبيل المرجعيّة لا غير، من كبريات الأعمال الروائية في العالم، بدءاً مثلاً من بعض أعمال أندريه مالرو أو الرباعية الأسكندرية، مرورا بروائيي أمريكا اللاتينية وأفريقيا الزنجية وليس انتهاءً ببول أوستير، أو بروايات منفردة (كالعطر) أو روائيين أفراد كبار يعرفهم القاصي والداني في هذه اللحظة. هذه الأعمال تستخف – وقد توجد مفردة أقل شحنة من الاستخفاف- بالسرد الحكائي المتتابع حتى لو أنها أرادت اليوم أن تكون محايثة لمشكلات آنية واستخدمتْ لغة توحي بالتصاقها بهموم الأجيال الجديدة وقلق عصر مُعَوْلم بأدوات اتصالٍ معقدة. لغتها مشحونة بشيء آخر: بمعرفة الأدوات البلاغية وبالحرقة الإنسانية الصادرة عن تجربة عميقة. وبكلمتين عموميتين: بالمعرفة والحرقة. من هنا يشعُّ الشعر فيها حرفياً أحياناً.في رواية دوارس المذكورة يمكننا اجتزاء مقاطع وتقديمها منفصلة على أنها من أفضل نصوص ما يُسمّى اللحظةَ "بقصيدة النثر"، ليس لأنها تحوز على شرط (السردية) العزيز على قلوب التقليديين النثريين الجدد، ولكن لأن كلماتها وبشكل خاص تمتلك قلباً يخفق ومعنى عميقاً، وكلاهما لا يتوفران في الكثير من قصائد النثر المكتوبة اليوم.ستنتاب المرء الرغبة والمغامَرة بتقديم مقاطع شعرية عالية الطاقة مبثوثة هنا وهناك ليس في رواية دوراس هذه ولكن عند مفكر كبير هو غاستون باشلار. في جُلّ كتبه ثمة جُمَل متباعدة في مواقعها لا تنتمي سوى إلى الشعر الصافي. وفي المثالين، دوراس وباشلار، لا تبدو الشعرية لعباً مجانيا على الكلام، ولا تقع في المفارقات اللغوية والمعنوية الشكلانية الراهنة (من قبيل: نفسي تُطِلُّ على نفسي)، ولكن في الدلالة المُصاغة بالمخيلة وشغاف القلب كليهما. لذا ليس من الغريب أن ترِدَ "قصائد ا
تلويحة المدى :عشيق مرغريت دوراس الصيني
نشر في: 2 إبريل, 2010: 06:30 م