فاضل ثامر يحاول نصاً محمد خضير "بصرياثا: صورة مدينة" ( 1993 ) إعادة خلق وصياغة مدينة متخيلة ـ ربما تكون يوتوبيا إفتراضية من نوع ما ـ وربما هي مدينة محددة وملموسة مثل مدينة البصرة، من خلال إستخدام مجسات وحبكات ومرويات تهدف الى التغلغل الى الزوايا الخفية والحية أساساً من هذه المدينة الفنطازية وبشكل خاص محاولة الاقتراب من أناسها ورموزها الثقافية والإجتماعية والتاريخية
واذا ما كان لكل مؤلف من هذين المؤلفين أدواته وأساليبه ولغاته الخاصة في بناء تضاريس هذه الرقعة الجغرفية ـ المكانية ـ الزمانية، الإ إنهما ـ ربما دون وعي مقصود ـ يعمدان الى خلق ما يسميه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور بـ "الهوية السردية" لهذه المدينة ويمكن القول ان دكنز سبق له وان حاول تشكيل مثل هذه الهوية في نهاية رواية " قصة مدينتين " ولكن بطريقة مغايرة. "والهوية السرديةNarrative Identity" في واقع الأمر جزءً من نظرية سردية واسعة طورها بول ريكور في كتابه الكبير "الزمان والسرد" 1984 ـ 1987 وهي لا تتحقق الا بالتأليف السردي وحده حيث يتشكل الفرد والجماعة معاً في هويتهما من خلال الاستغراق في السرديات والحكايات التي تصير بالنسبة لهما بمثابة تأريخهما الفعلي ، وما يهمنا هنا التركيز على وجهة النظر التي ترى ان كل هوية تتعالق بهويات الآخرين بطريقة تؤدي الى توليد قصص ذوات نسق ثانٍ تتشابك وتترابط بدورها مع قصص متعددة، حيث يصبح الزمن الانساني هو الزمن الذي يعيد صياغة الهوية السردية وهو أيضاً زمن قصص حياتنا (او تواريخ حياتنا) مأخوذاً إما على مستوى فردي او على مستوى جماعي بوصفه تاريخ مجتمعنا وهذا الأمر هو الذي دفعنا الى ترحيل مفهوم الهوية السردية من مظهرها الفردي او الجماعي البشري الذي طرحه ريكور الى فضاء الهوية السردية للمدينة من خلال قيام مرويات نصي محمد خضير ومهدي عيسى الصقر بأنسنة humanization هذه المدينة وشخصنتها Personification، وبالتالي الارتقاء بها الى مستوى الذات الفردية التي تبحث عن هويتها من خلال السرد. يعلن المؤلف محمد خضير ان الهدف من نصيه هو تقديم "صورة مدينة" وهر لا يخفي حضوره السردي، بل يعلن من خلال الدخول في لعبة السرد عن فعل الكتابة السردية الواعية من قبل راوٍ ضمني، ربما هو الذات الثانية للمؤلف او قناعه.كما ينحو المؤلف الى اعتماد عملية مزدوجة في التعامل مع هذه المدينة المتخيلة من خلال آليتي "التغريب" "ونزع المألوفية" فالمدنية تبدو لهما بكراً وكانها تكتشف للوهلة الأولى، وهو ما يمنح الرؤية المكانية تجدداً وولادة بكراً، اذ يدخل راوي محمد خضير المدينة بعينيين وهو مندهش وكأنه يكتشف المدينة للمرة الاولى، يثير النص إشكالية اولية تتعلق بالتجنيس الأدبي، فنحن هنا إزاء نص غير تقليدي تتداخل في فضائه "الاجناس الكتابية وغير الكتابية، ويرتفع فيهما الوعي الذاتي بقصدية الكتابة السردية، وهو فضاء يمكن تبريره، او فهم مشروعيته جزئياً من خلال الاندراج ضمن مغامرة السرد النرجسي الذي اصطلح عليه بما وراء السرد او " الميتا ـ سرد metafiction والحساسية الجمالية التي مثلتها اتجاهات "ما بعد الحداثة" Post_ Modernism، فمنذ السطور الأولى لـ " بصرياثا " يتكشف هذا المنحى عندما يقف الراوي الضمني امام المداخل الاربعة لبصرياثا " التي هي بمثابة " عتبات " المدينة المكانية والنصية ليقول في الاستهلال " يروي الرواة عن المدن القديمة أحداثاً وعجائب منطوية، لكني أروي في كتاب ـ بصرياثا ـ عما هو معلوم ومدبر في سطور القدر . وتشكل نصوص "بصرياثا" التسعة ـ التي تبدو للوهلة الأولى متباينة مستقلة نصاً سردياً موحداً من خلال نسيج فسيفسائي يعتمد المجاورة والرؤيا الموحدة والدائرة الموحدة والدائرة المكانية والجغرافية والبشرية والزمنية المشتركة التي تتحرك فيها النصوص والبنيات النصية الصغرى microstructures لتشكل نصاً أكبر macro- structures هو نص " بصرياثا " وهو ما يدفعنا الى الاعتقاد بان هذا النص هو بمثابة الحاضنة الجنينية الأصيلة التي إنبثقت منها لاحقاً تجربة أغنى وأعمق وأكثر تماسكاً هي " كراسة كانون " الصادرة عام 2001 والتي وجدنا فيها نضجاً أكبر لتقنيات اللعبة السردية الميتا ـ سردية. وبقدر ما يتعلق الأمر بنص محمد خضير يمكن القول انه ينتمي الى آلية صياغة النص السردي والتخييلي وليس الى آلية تشكل النص التاريخي، على الرغم من وقوفه ـ في الظاهر ـ امام وقائع تاريخية وزمنية محددة، وهو تمييز مهم على المستوى البنيوي طورته دراسات ما بعد ريكور ومنها دراسة ( ماريا فليلا ـ بتيه ) التي تميز بين نمطين من السرد في ثقافتنا: فمن جانب هناك السرود التخييلية التي وأن إبتدأت باحداث واقعية، لكنها تفترق عن الواقع وتغادره وتقدم نفسها بوصفها اعمالاً للخيال السردي تاخذ بنظر الاعتبار الإجراءات والمقتضيات المنهجية ( الميثودولوجية ) كافة في مقابل السرود التاريخية التي تستند الى الوثائق وانماط المواد الحقيقية والتي تنزع لان تكون موضوعية لكن حتى السرود التاريخية لا يمكن لها ان تنقطع كلياً عن مصادر التأليف السردية، لأ
الهوية السردية للمدينة عند محمد خضير
نشر في: 7 إبريل, 2010: 04:51 م