لؤي حمزة عباسبعد أن أنجز محمد خضير قراءته لصورة مدينته، وتأمل خرائطها ووجوه أناسها، وتقلّب أزمانها في كتابه (بصرياثا ـ الأمد 1993)، يتوجه في (حدائق الوجوه ـ المدى 2008) لمدن الأخيلة الفسيحة وعوالم الحكايات عبر حدائق كتّابها، حيث تكون الحديقة قلب العالم وجوهره الذي يتكشف عبر الحكاية والقناع، فالكاتب الذي اختبر قدرة النوع القصصي داخل القصة القصيرة وخارجها
يسعى في كتابه الجديد للانفلات من أسر النوع وقوّة حضوره، والكاتب الذي طالما وقف على مسافة من كتابته منفصلاً عنها، يعمل في (حدائق الوجوه) على أن يكون جزءاً منها، يتملى صورته في مراياها، يستقصي خطوات بستانيها الأمين على أرواح أناسه وأرواح أشجاره، حيث تعادل الروح الإنسانية في حضورها الأثير روح الشجرة التي تحكي حكاية حافلة، فتكون الذات الكاتبة هدفاً للكتابة وموجّهاً من موجّهاتها، كنت أنتظر بستانيّ الطفولة هذا لأنتزع من وجهه القناعَ الذي سأروي خلفه حكايات أَجَلي في الحديقة الوسطى (حديقة الأعمار)، يقول محمد خضير في كتابته “تمرين في السيرة الذاتية” محاولاً إتّباع خطوات البستانيين العظام الذين ساروا قبله باتجاه (خان العالم) الذي تصوَّره مولانا جلال الدين الرومي. “حاولتُ جهدي أن أؤلف كتاباً يلتحق بكتب الأعمار الشفافة، وأن أحكي سيرةَ ستِّ حدائق محيطة بحديقتي (السابعة) التي تحوي وجوه حياتي”، إن الكاتب يعمل من خلال كتابه على مواجهة الكتابة فعلاً دائم التخلّق، وقراءة ما سطّرته حروف صنّاعها العظام، حيث بإمكان الإنصات العميق أن يقود أبداً إلى حكمة الأصوات الخفيضة، تلك الأصوات التي منحت التجربة البشرية خلاصة حضورها.إن البستاني في كتاب محمد خضير يخطو هو الآخر مثل حلم أو خيال رهين حديقته واسعة الأرجاء؛ أما غرضي، يقول الكاتب ” من زيارة الحديقة فلم يكن غير استقصاء موقع البستاني بين هؤلاء المتنزهين، فأجدّ في البحث عن مكانه في الزوايا وظلال الأسيجة علّني أعثر على الكيان المتواري عن الأنظار”. إن البستاني يشيخ بين صور حدائق الطفولة ولا تتبقى منه إلا صورة بالية، متحللة في تربة الحلم والخيال، إنها اللحظة التي تُطلق الحدائق فيها إشارتها العابرة، خلاصة أعمار بستانييها وهي” توحي بأن جدوى بعث جمال شئ ما تبدأ لحظة زواله”، اللحظة التي تفسر تاريخ الكتاب وتضئ موقعه في حقل الكاتب، لتصبح الكتابة حقلاً واسعاً من الرؤى، والأحلام، والهواجس، فيرتدي الكاتب في سبيل انجاز كتابته أقنعة ستة بستانيين عظام ليروي حكايات ستة وجوه استظلت في حدائقهم، ويستبقي قناعاً سابعاً يرتديه في حديقة الأعمار الوسطى التي يرعاها، وهو يُعلن عبر أقنعته هندسة حدائقه وخرائط خيالاته مبتدئاً بالحديقة الوسطى، حديقة الأعمار، بأقنعتها ووجوهها وحكايات أناسها، إنها حديقة الكاتب ومرتقى سنواته التي سيمرّ من خلالها إلى حديقة الصمت، مستعيناً بتأملات اثنين من المعماريين لتصميم قناع الشاعر، ولاكتشاف صمته، حيث “يلجأ المرء إلى الزحام الصاخب ليحجب ضجيج صمته هو”.إن الدخول إلى حديقة طاغور، والمكوث في مدرسته (شانتنيكتان) يهيئان فرصة لتأمل الحقائق الصغيرة، ثمار الصمت التي تمرحلت بين قطافها الحلو والمر حياة الشاعر، لتكتمل حديقة طاغور ويضاء قناعه بحكاية ( البوراني)، أحد رواة الرامايانا القدماء، ليتحوّل الكاتب بعدها إلى (حديقة القرن) منصتاً إلى نهاية الفاصل الأخير من القرن العشرين وهو يتوق إلى خيال بشري جامح، خيال أسطوري مرح، يبرمج المستقبل الغامض للمسيرة البشرية، مقترحاً قناع غابرييل غارسيا ماركيز لهذه المهمة الصعبة، إنها مهمة ما بعد الكارثة النووية، حيث سيعلو صوت الروائي متحدثاً في اجتماع تضامني مع ضحايا هيروشيما عن توقف أغنية الإنسان اللاعب بمجازات الحب. مع النسر العجوز، ماركيز، تتكشف أسطورية الضمير العالمي وهو يتشفى بعزلة الممسوخات المعذبة. ولا يبدو غريباً في حدائق محمد خضير أن تؤدي (حديقة القرن) إلى (حديقة العالم)، وأن يؤدي قناع ماركيز إلى قناع بورخس في فكرة الجاذبيات المتوازنة التي يتحدث من خلالها الكاتب عن انجذابه لفلك بورخس وهو يعدد اسماءه، ويواصل هربه من الحدائق المتشعبة. كل قصة يكتبها بإسم ويظهر فيها بقناع، فما نحن في آخر المآل سوى أقنعة في مجلس العالم.يدخل الكاتب بعدها إلى (حديقة النبي) مستمعاً لكلمة جبران خليل جبران “جئت لأقول كلمة وسأقولها، وإذ أرجعني الموت قبل أن ألفظها يقولها الغد. والغد لا يترك سراً مكنوناً في كتاب الأبدية”. عن أخوّة الروح، ومحبة الأزل يتحدث جبران في حديقته، ويضئ قناعه بفيض غربته عن العالم، حيث تكمل الريشة دفق الكلمة وتمنحها ظلالاً تبلبل المعنى بين النور والظلمة. بعد (حديقة النبي) تنفتح (حديقة الحب)، والحدائق في انفتاحها وتسلسل أطيافها تعبّر عن تلازم معانيها، فمن وجه جبران، أو قناعه، تخطر أمام البستاني وجوه العشاق الزاهدة والضامرة، الزاهرة والمضيئة، عابرة من كتب مثل (طوق الحمامة) و(الزهرة) و(مصارع العشاق) و(تزيين الأسواق) إلى كتاب الحدائق والوجوه، لتختتم حدائق الكتاب بـ (حديقة الغفران)، حيث يتجلى قناع أبي العلاء المعري وهو يتحرك طليقاً من
"حدائق الوجوه" لمحمد خضير
نشر في: 7 إبريل, 2010: 04:52 م