د. رياض الاسديكتب الشاعر السوري ادونيس -ذات مرة- في وصف الكتابة على أنها: حِمض نووي يجتاز الحاليين ليصل إلى الأسلاف الماضين أحيانا، وهي في ذلك المنظور (المتفلسف) تعدّ فعلا لا مهرب منه بالنسبة لأولئك الوراقين الذين أُخذ الحمض النووي من ظهورهم: إنهم الأسلاف في النهاية وليس ما هو قائم. الحراك اليومي، وليس ما هو ضاغط على الحياة الإنسانية، فلا حلّ إلا في الورق، والورق وحده؛
حيث تهرق الكلمات بحبر الزعفران! مهنة قد تجلب مزيدا من الخبز أحيانا؛ لم تعد مواقف زوجة سقراط صحيحة في عصر دهاقنة النفط والأمراء من رعاة الثقافة! ربما لم يعد محمد خضير - بعد تجارب كتابية طويلة وشبه متنوعة- صاحب الرقم القياسي في قراء النخب الأدبية والثقافية في العراق إلى حدّ ما -كما كان في عقد السبعينيات من القرن الماضي- وتلك مسألة تؤرق القاص الكبير الذي تحول إلى وراق مسكون بالأفكار الماضوية والحداثوية في آن، وبعد سلسلة من المعاناة الكتابية، حيث كونت (رئاية: كراسة كانون) للوراق محمد خضير بتخطيطات (غويا) والتي أريد لها أن تكون (رواية حداثوية) لتتحول إلى فضيحة فنية.. فقد ولج صاحبنا الوراق البصري برزخا لم يستعد له عدة وعتادا. وقد يعود ذلك الهوس بشكل الكتابة إلى تغيير الرؤى للكاتب وكثرة تجاريبه القرائية التي آثر أن يحولها إلى عالم من الرسم اللاعضوي.. بعد أن غادر الحياة اليومية وهموم الإنسان المثقل بالموت والفجيعة (هنا) وخاصة بعد مجموعته القصصية المهمة ( في درجة 45) ليكتب من قراءاته (= ذاكرته الثقافية) فحسب؛ بما يؤدي إلى تماس شراري مع تجارب كتابية عالمية مختلفة أخر(تناصات وتلاقحات)، فضلا عن الاطلاع الدائم على مدارس نقدية عالمية متنوعة تترى على حياتنا الثقافية من حين لآخر. ثم محاولاته شبه الدائمة في التفلت من (قبضة اليومي المرئي) للتحول إلى قبضة أخرى لمدن لامرئية في نسق من مواجهة السيد (العضوي) الذي نخر حياتنا بدءا من الشارع حيث يشخص أمامنا كلما تجولنا في هذه المدينة المغبرة ذات المياه المالحة وانتهاء بأرواحنا. يظن القاص محمد خضير غالبا أن (القبضة) القادمة (حلما ما) أكثر منها قبضة (واقعية) وهي أكثر راحة من غيرها- هكذا يخيل له لأول وهلة حيث يجلس فيها وسط عالم يهطل بالأمطار الحامضية- لكنه لا يلبث بعد مدة من الزمن، غير طويلة، حتى يكتشف بلادة الأصابع الضاغطة على رقبته وقلبه، والمغمضة لعينيه غالبا في النهاية: ليس ثمة عالما (مأنوسا) :" إنهما عالمان متجاوران، جيشان أسطوريان، ممدودان بخرافات لا إنسية" هكذا يفترض محمد خضير العالم ليقسمه ببلطة الميناتور: عالم يسكن فيه مع ثلة من الوراقين - غير الأسوياء عقليا أحيانا- في (مشاغل) مختلفة الأقاليم والجنسيات، كوسموبوليتي، وعالم تسكنه الوحوش الآكلة للحم البشري من (العضويين) القدامى والجدد: المتمركسون و(القومجيه) و(المتأسلمون) مقابل عالم من المتعولمين - ربما اللاعضويين أيضا- الذين يرفضون العضوية الوطنية الطبيعية حتى..! لذلك تبقى مجرد (أحلام × أحلام!) للسيد الوراق إذ ليس ثمة معقولية فنية في ذلك لو تعمق في مشغله الورقي؛ لأن العالم المرئي واحد مهما حاولنا تجزئته في أذهاننا الصحية أو غير الصحية وهو الضاغط الكبير علينا. ورغم ذلك فإن القاص محمد خضير الورقي لم يجرب قبضات السادة الشرطة السرية القوية السابقة والحالية - على حدّ علمي!- إذ لا تسامح مع الهاربين من القبضات طوال التاريخ الإنساني. ومن هنا فإن الخروج عن البناء الجمالي لعالم (قبضاوي) غير منظم ووضعه في سيناريو سرد (فيلم ورقي) جيد وجديد بمقاييس (سد فيلد)(*) وحائز جائزة عالمية كالبوليتزر يبدو سهلا ومرضيا عنه من بعض (المتنقدين) لكنه أمر صعب المنال دائما بالنسبة لقاص يسكن مدينة أقل ما يقال عنها: أنها قرية قروسطية كبيرة تحلم بأمطار حامضية، إن لم يكن التفلت من هذا العالم القروي البائس مغامرة غير محسوبة النتائج على مستوى الجمال والفن والرؤية. قلما يدلي القاص محمد خضير برؤيته حول ما يدور من أوضاع في هذا العالم المتسارع الغريب الذي نحاول ككتاب أن نجعل منه منظما ومفهوما إلى حدّ ما، ولا يعود مثل هذا الأمر إلى (عجز) الكاتب عن المتابعة لما هو حاد وشاذ ومهلك في عالمنا المتوحش بل إلى رغبته الجامحة أحيانا في أن يكون واحدا من أولئك البوذيين المتأملين الجدد أو الزهاد الساكنين حيث يسكن حدائق من الأفكار (الوجوه) التي قد تغوص في عالم صوفي أيضا دون أن يمتلك القاص عدته وعتاده الكافيين للغوص في ذلك الاوقيانوس المتلاطم إلا رغبة في التفلت من قبضة سابقة - كمهرب من الواقعية الحادة التي عرف بها- وقد نصب القاص نفسه بستانيا مخدرا ليتجول بحرية في حدائق مزيفة من ورق. وقبل أن تكون تلك التجارب قريبة من قلعة الأحداث الرهيبة والجسام التي تضغط عليه يوميا ليتحول غير مأسوف عليه إلى (مهارب) غير مطمئنة ومخطط لها سلفا لسبر عوالم ورقية لا نهاية لها ولا بدّ منها أحيانا في تلك المنهجية المغرية؛ فيحاول محمد خضير في كل رحلة من رحلاته السندبادية أن يكون بعيدا عما هو مألوف وجار ومحتمل من أجل السيد التجريب والتجريب وحده للتفلت من القبضة دائما.وفي مقالة القاص محمد خضير: خارج العاصمة: المثقف اللاعضوي (اللامنتمي) تطرح المحاولة في إزاحة المثقف العضوي دون أن يقدم توصيفا علميا واض
مراجعات غير مطمئنة لعالم القاص محمد خضير ... محنة الورّاق
نشر في: 7 إبريل, 2010: 04:53 م