د. حاتم الصكر* لا يزال اقتران الخيال بالعلم موضع نقاش من طرفي المسألة : الكتّاب والعلماء،ولكن علينا في البدء أن نجيب على سؤال مكرر: لماذا تندر كتابات الخيال العلمي في ثقافتنا المعاصرة؟ ولماذا يظل- شأن السيرة الذاتية - مهمشا ونادرا؟ وإذا كانت المحددات الاجتماعية والرقابات السياسية والدينية تقيد العمل السير ذاتي وتمنع انتشاره أو ظهوره مكتملا ،
فإن النظر إلى العلم وتنشيط الخيال باتجاهه سيكون السبب المباشر لندرة الخيال العلمي في أدبنا. وسيرينا الاستقصاء اللغوي أن مفاهيم الخيال في موروثنا الثقافي محدودة ، وأن طاقة الخيال ومداه عربيا على المستوى اللساني والثقافي يحددها الموروث واللغة والرؤية السائدة لدور الخيال ومفاهيمه. فمعانيه القاموسية لا تخرج عن التوهم والظن والاشتباه ، ولا تبعد كثيرا عن الشيء الموجود ، بل يظل الوجود المتعين للأشياء مقياسا للتخيل ومرجعا يتم الاحتكام إليه ، وبذا عدّ نقاد الشعر نسبة صفات الناقة للجمل عيبا ! واستعارة المجرد للمحسوس استحالة ، كتشبيه أبي تمام للأخلاق بالخضرة وإسناد الملام للماء ، ولا يشفع الفضاء المجازي وتركيب الصورة الشعرية لهذا التجوز المولّد بطاقة الخيال،ومادام الخيال انعكاسا للشيء بأبعاده الحقيقية، فقد تقرر أن الخيال المشابه هو ظل الإنسان، وإلباس الخشبة ثياب رجل لإفزاع الطير والحيوان تشبيها أو خيالا، ويمتد الحقل الدلالي إلى الحلم فيغدو خيال الشخص في المنام صورة مثاله، وطيف الخيال ظل الشخص مصورا في الحلم ..حدود وتنويعاتلا يبتعد مفهوم الخيال تبعا لذلك عن الواقع ولن يسمح إلا بظهور تنويعات للخيال وتكييفات قريبة تتيح تمثيل الواقع بصورة أخرى هي التي وجه كولن ولسن في (فن الرواية ) النقد لأشباهها الغربية لمحدودية الخيال الموروثة فيها ولانشغالها بالعالم الواقعي الكامن تحت الأحلام واستغوارها له . و يمكن التمثيل لها في تراثنا بألف ليلة وليلة والعوالم الفانتازية التي تضمها حكاياتها لا سيما في المسخ والتحول أو المشاهدات القائمة على التوهم كرؤية البحارة سمكا بوجوه آدمية ،أو ما يظهر من خيول ودواب لها أجنحة ، أو طيور ضخمة الحجم ، وعمالقة قساة أو عفاريت مرعبة.وفي هذا الجو الفانتازي لا يقوم الخيال إلا بتعزيز الأسطورة والخيال المطوَّر عن الواقع بغير نظام ،ولا يحكمه إلا نسق التخريف لذا أفردت كتب النقد فصولا لهذه التآليف التوهمية والتشبهية والمعبرة عن وعي اجتماعي قاصر بالحقائق العلمية .لكن الإنسان لم يكف عن التفكير بالنأي عن الواقع كمرجع نهائي منذ طفولة البشرية ، وما الحيوانات المختلطة المزايا والمولّفة من أعضاء حيوانات عديدة إلا إحدى مظاهر حنين الإنسان لإطلاق خياله لا على مثال ( الثور بجناحين وخمسة أرجل في النحت الآشوري، وحيوان ( السيزروش) بجسد غزالة وذيل أفعى منتصب وقرنين طويلين معقوفين على جدران بابل ) .وتعد اليوتوبيات مظهرا آخر لهذا التمثيل الجمعي للعالم البديل مما دعا لتصنيف أعمال كثيرة ضمن اليوتوبيات النقيضة أو البديلة أو المضادة والمغايرة ، وهي أوصاف تهدف إلى كشف برامج العمل اليوتوبي واستراتيجياته وتفريقه عن أنماط خيالية أخرى كالحكايات العلمية والفانتازيا .يوتوبيات تقليدية كانت اليوتوبيا كما طوّرها اصطلاحيا توماس مور عن الأوتوبيا اللاتينية التي تعني اللامكان ، قد انشغلت بالعالم البديل الممكن بتغيير الموجودات والأشياء لتحقيق العدل والمساواة والحرية ، لكنها في جوهرها لم تبتعد عن مرجعين : الأول- مدن الإنسان الفاضلة نقيضا لقسوة المدن القائمة وغياب العدل فيها كما في الجمهورية لأفلاطون ، والثاني - الواقع نفسه الذي يجري تعديله وإصلاحه ، ويقدم لنا توماس مور نفسه أمثلة على ذلك فلما كان الحصول على الذهب حمّى وسحرا جاذبا لمغامرات معاصريه ومؤامراتهم فإنه يجعله حلية للعبيد والأطفال ، كما يتخيل الجزيرة بلا نقود ولا محامين لتوخي العدل الطبيعي والزهد بالمال لتحقيق التوازن الاجتماعي ، وهو ما تؤكده الدراسات الحديثة التي تفرق بين الفكر اليوتوبي وعلوم المستقبل القائمة على التخطيط ، لأن اليوتوبيين معنيون (بخلق أفكار وتصورات للإنسجام الاجتماعي صدورا عن الخيال الأدبي والتصور الفلسفي) كما تشخص ماريا برنيري مؤلفة كتاب رحلة مع اليوتوبيا الذي أسمته المترجمة عطيات أبو السعود: المدينة الفاضلة عبر التاريخ ، كما تؤكد تشابه مخلوقات اليوتوبيات كبشر من نمط واحد ، مجردين من العواطف الذاتية ، وهذا يدفعنا للحكم على اليوتوبيات العربية والمدن الفاضلة بأنها واقعة أيضا تحت ثقل المرجعين : اليوتوبيات الموروثة عبر التاريخ ونمطيتها ، والواقع المعيش كمادة قابلة للتعديل والإصلاح والتغيير، لا بالنأي الخيالي عنه ومفارقته كما تقترح اليوتوبيات المغايرة أو الأعمال القائمة على الخيال الحر، وهو أمر تشترك فيه مع اليوتوبيات والأعمال الخيالية الغربية المبكرة ، رغم أن القاموس الغربي يوسع مدى الخيال ولا يحدده بمرجعية الشخص وصورة ا
محمد خضير من التنبؤ إلى التأمل
نشر في: 7 إبريل, 2010: 05:03 م