عبدالله السكوتي جاء في كتاب أفواه الزمن للكاتب ادواردو غاليانو وتحت عنوان ولادة : المستشفى العام القائم في الحي الاكثر زحاما في ريودي جانيرو، يتولى رعاية اكثر من ألف مريض في اليوم، وجميعهم تقريبا فقراء مدقعون .
طبيب مناوب روى: في احد الايام كان عليه ان يختار بين طفلتين حديثتي الولادة ، حيث لايوجد سوى جهاز تنفس اصطناعي واحد ، وقد رأتا النور في الوقت نفسه، وكانتا تحتضران وعليه ان يقرر ايهما تعيش ؛ وفكر الطبيب ليس هو من يقرر، وليحسم الرب ذلك؛ ولكن مع هذا لم يقل الرب شيئا، وكان سيقترف جريمة، أياً كانت التي سيختارمنهما ، لكنه سيقترف جريمتين اذا لم يفعل شيئا .لم يكن ثمة وقت للتردد، الوليدتان كانتا في النفس الاخير، وبدأتا تغادران هذا العالم؛ أغمض الطبيب عينيه ، حكم على إحداهما بالموت والاخرى حُكمت بالحياة. والولادة التي شهدها العراق في (9) نيسان كانت مختلفة بعض الشيء ، اذ كان على الطبيب ان يختار بين خيارات متعددة وليس خيارين؛ ومع كل الذي حدث من إرهاصات مرت وتمر، ومن ديمقراطية متعثرة اختير لها طريق خاص تسير عليه، مضافا الى ذلك الحرية غير المنضبطة التي مورست بالاستيلاء على ممتلكات الدولة، وبرغم الفوضى التي عمت البلاد ، تبقى العملية هي عملية ولادة، وان تعسرت ولم يفهم البعض المطلوب منه ؛ سياسيون ومواطنون على حد سواء .لقد انتظرغالبية الشعب نهاية عصر الدكتاتورية بفارغ الصبر، عدا بعض المستفيدين من النظام السابق، لكن المنهج والصيغة العامة التي اعلنت بمجرد السيطرة على بغداد، جعلت الكثيرين يعودون خطوة الى الخلف وهذه الخطوة تطورت بمرور الوقت، يضاف الى ذلك عامل مهم جدا هو العامل العربي والاقليمي الذي حاول تجميل الصورة التي تشوهت بعض الشيء امام شعوب هذه المنطقة للخروج من مأزق دخول القوات الاميركية الى العراق بنظرهم.وكان هذا التدخل يحمل عاملا مساعدا لإذكاء جذوة التفرقة والفئوية خصوصا وان العراق محاط بأيديولوجيات متعددة ومختلفة ، كلها لديها رابط ما مع جزء من شعبه الذي ائتلف منذ سنين طويلة .على هذا الاساس اختلطت الاوراق وبدأت الشعارات تأخذ مداها ، وتؤثر على فئة كبيرة من المجتمع فكّرت ان السلطة التي صودرت منها كان يجب ان تبقى حكرا عليها .ان ثقافة المشاركة والديمقراطية وتقبّل الاخر ثقافة جديدة على المجتمع العراقي ، ولذا تردد كثيرا في قبول اي منها بلا ثمن ؛ وقد دفع الشعب ثمنها دماء غزيرة، مازالت تنزف وبحدة غير معهودة ؛ ومع هذا وبرغم جسامة المدفوعات، مازال الشعب يطمح الى تجربة متفردة يحيا خلالها كأي شعب متطور بعيدا عن التهميش وحكم الطواغيت ؛ ويستطيع اختصار مراحل الديمقراطية بدمائه المدفوعة الى مرحلتين او ثلاث.ان 9 نيسان مرحلة جديدة في حياة شعب لم يغادر بعد سياسة القتل والتعذيب ؛ حروب وحروب وانعزال تام عن العالم وتخلف ألقى بظلاله على جغرافية الوطن بأجمعها ؛ هذا كله دعا الناس الى التخلي عن مساندة نظام أحرق الاخضر واليابس، ولم يدع مجالا للشك بأن تغييره واجب وطني ، وهذا التغيير كان يراود اقرب رجالات النظام ذاته ؛ وهاجس المؤامرة كان سمة النظام المميزة له ؛ ضباط وأعوان كثيرون منهم المقرب من النظام والداخل حتى تحت خيمة جرائمه المتعددة ، لقد تقاطعت مصالح الكثيرين مع النظام الجائر آنذاك، الذي كان يخلط السكر مع السمنت لبناء قصوره، في حين اصبحت قنينة البيبسي حلما عراقيا مستحيلا.
هواء فـي شبك :ولادة عراقية
نشر في: 9 إبريل, 2010: 08:00 م