لطفية الدليميكلما مررت بالمرأة المشردة على الرصيف الباريسي قرب جسر غرينيل -وجدتها شبه مسحورة تتصفح المجلات والجرائد أو مستغرقة بقراءة كتاب مصور أو منشغلة بحل الكلمات المتقاطعة، وعندما تتصفح الجرائد تبدو
وكأنها تحلل تصريحات الساسة وتسخر من انباء انهيار أسواق المال العالمية وتنقب عما وراء الأخبار والأحداث كما تتراءى لها من عرشها الورقي وضياعها، ثم أراها تشاكس المارة من مكمنها فوق الرصيف، أو تعلن آراء وتعليقات قاسية عن البشر والسلطة ثم تعود لتغرق في طبقات ملاذها الورقي المكون من نسخ الصحف والاعلانات و هو بمثابة سرير ومأوى وعرش ودثار ومكتبة متواشجة مع جسد صاحبتها البدين وثيابها الرثة ونظراتها الحانقة وتبدو المرأة-إزاء أقرانها من المشردين المطاردين مميزة بامتلاك موقعها الحصين -وكل أمر نسبي- ان تملك وسط عالم التشرد المهين في المجتمع الاستهلاكي خصوصية ما، حتى لو كانت فراشا من صحف يتجدد كل يوم بعشرات النسخ من الصحف والمجلات وطبعات الإعلانات التجارية، الأهم أنها تملك موقعا على الرصيف سمحت لها به بلدية باريس.. تبدو المرأة المشردة هي وأسمالها وصحفها وقطع الكارتون بعلاماتها التجارية وأكياس البلاستك الملونة نصا بليغا عن قسوة مجتمع الاستهلاك وانسحاق الإنسان أمام سطوة عالم السوق، وليس مصادفة أن تتخذ هذه المرأة مهجعها مقابل مراكز تسوق استهلاكية شهيرة قرب جسر غرينيل في الدائرة الخامسة عشرة من باريس حيث تحتل مكانا استراتيجيا على الرصيف منذ سنوات مقابل احد فروع متجر (مونو بري) الشهير لتصير معلما من معالم المنطقة، ويشكل غيابها خللا في المشهد اليومي للشارع وكأن ضياعها المعلن ضرورة منطقية لتأكيد رفاهية العمائر الشاهقة المطلة على السين في شموخها الطبقي ومفارقتها لحياة مشردي وفقراء العاصمة الفرنسية المتزايدين..المفارقة أن المرأة المشردة التي تبدو في الخمسينيات من عمرها لا تقر بهزيمتها وانحدارها المهين ، فهي تحدق بصور النساء الجميلات على أغلفة المجلات من ممثلات وعارضات أزياء مبهرجات وتقلدهن وتحرص كل صباح على تلوين وجهها بالأصباغ الفاقعة أو تضع على رأسها شريطا مزينا بريش ملون كراقصات المولان روج، أو تعتمر قبعة عتيقة مزينة بالزهور، ولا تنسى، وهي المهجورة المتحولة الى مجرد مخلوق هامشي، أنها امرأة وعليها ان تسوّق صورتها الأنثوية كما لقنتها ثقافة المجتمع الاستهلاكي السلعي، وتبدو بلا ذاكرة ولا غد لأنها مهمومة بتلفيق لحظتها العابرة ونسيانها في اللحظة التالية ..مراسل إحدى محطات التلفزة الفرنسية التقى هذه المرأة وسلط الأضواء عليها، وبدت في الحوار امرأة ساخرة اختارت ان تعيش على هامش المجتمع الذي لا تكن له الاحترام لزيفه وكذبه، ثم كانت المفاجأة الكبرى حين اعترفت بان لها رصيدا في أحد البنوك المجاورة يتجاوز الخمسين الف يورو جمعتها من التسول والمعونة الاجتماعية، ولم تكن تنفق سنتا واحدا من حصيلتها بل تتسول طعامها من المطاعم والمارة، وترتدي الأسمال التي تعثر عليها في النفايات، وحين سئلت عما ستفعله بالمال، قالت لا تتدخلوا في شؤوني الشخصية ذلك سر ستعرفونه في وقته ، وقيل حينها: لربما كانت تواصل سخريتها من العالم وتضحك من غفلة الآخرين ازاء فكرتها الخاصة عن المال في المجتمعات المعاصرة. كنت أتحاشى إلقاء التحية على هذه المرأة، فقد تفاجئني بردة فعل غير متوقعة حسب مزاجها المتغير العنيف ،على العكس من مشرد عجوز ذي نزعة فنية اتخذ له ركنا في ممر مرآب العمارات قرب رصيف المرأة المشردة ، كان يرتدي ملابس رثة مزركشة كملابس فرق الروك وينحني بتهذيب جم كلما حياه أحد المارة، ثم يعود لتنسيق المنبوذات في ركنه المزدحم بما جمعه حوله من تحف وآلات موسيقية ووسائد وادوات مائدة ولوحات مزيفة وألعاب أطفال محطمة وأحذية ثمينة ممزقة وتماثيل لبوذا ولينين وماو تسي تونغ ولا تراه إلا منهمكا بتنسيق فردوسه العابر من بقايا ثقافات متباينة آسيوية وافريقية وغربية هي حطام نتاج السبعينيات وما تلاها: موسيقى جاز وروك وفن تشكيلي وأزياء وكتب رثة وملصقات فنية وسياسية لغيفارا- ومارلين مونرو وداليدا وديغول ، حطام يصنع للمشرد النكرة حاضرا مشوشا بمشهد مفكك مابعد حداثي، لعله يحاول عبره تلفيق ذاكرة توصله بالزمان وتوهمه بامتلاك المكان إلى حين والعبور الى الحلم باستعارة ماض لم يعد ملكا لأحد.
قناديل :إقامة على ناصية النسيان
نشر في: 10 إبريل, 2010: 04:39 م