محمد خضير التفريق بين القصة والحكاية كالتفريق بين طابور المتقاعدين وقطار النساء العائدات من النهر بأواني الماء. كلاهما خط اتصال بالوضع الإنساني العراقي، وكلاهما دالّ على الجفاف والعطش والإصرار على البقاء. لكن الطابور حكاية، وقطار السقاية قصة.
يتقابل الرجال والنساء في طابور الرواتب التقاعدية حول بوابة المصرف، يتزحزح جناحاه ببطء، وترتقي نساء النهر الجرف الرملي مثل خط نمل أسود. تبتلع بوابة المصرف المتقاعدين دفعة إثر دفعة، وتبلغ السقاءات أعلى الجرف وتتفرقن. عناء مقابل عناء. لعاب المال ولعبة الماء. حكاية مقابل قصة.لن أفعل شيئاً لتخفيف عناء النساء المتقاعدات في شطر الطابور المنتظر أمام المصرف، لكني أتدخل بقوة لجذب انتباه نساء النهر والتقاط حوارهن المتقاذف حول رؤوسهن الثابتة الحاملة قدور الماء. أمتلئ بعذوبة القصص المتفرقة وراء جرف النهر، ويملؤني طابور المتقاعدين بالقرف والاحتقار والعجز عن مقاومة لعنة العيش الاستهلاكي فأدير خاطري نحو لقاءات الحب في قصص الطبيعة الحرة. أنتظم في طابور المتقاعدين الطويل، وأدفع مللي المتزايد بأن أقارن فلاحات مزارع الرز في رواية مرغريت دوراس (عشيق الصين الشمالية) بأسيرات الحصن الصحراوي في رواية ج.م. كوتزي (في انتظار البرابرة). قصة الحب في مستعمرة الهند الصينية الفرنسية، مقابل حكاية البرابرة المعتقلين في حصن استعماري على حافة الصحراء بجنوب أفريقيا. قصص منازل النهر قصص حب صامتة، طابور الحصن المالي المتحرك تحت حراسة الشرطة حكاية رعب صاخبة.الحوار، أجل، هذا ما يفرق القصة عن الحكاية. حوار حيّ مطعّم بالصرخات والهمسات، يبلغ نقطة الصمت فيتوقف. حوار الحكاية مبهم، مدغم، ضجة لا معنى لها كجنين سقط قبل أوانه، أو كهذر عجوز لا ينتهي في طابور طويل لا حد لنهايته هو أيضاً. تبتلع بوابة المصرف جزءاً من الطابور، فيلتحق في ذيله جزء وافد. وحين يطول الانتظار، يبدأ المتقاعدون باختلاق حكايات مملة، تتخللها عبارات الامتعاض والضجر، حكايات لا حد لسأمها ولعنتها.على عبّارة تنقل شاحنة ركاب الأهالي وسيارة سوداء طويلة بين ضفتي الميكونغ، تلتقي فتاة المستعمرة الفرنسية برجل صيني غني. الفتاة في السادسة عشرة من عمرها، طالبة ثانوية داخلية في سايغون، والرجل الصيني في السابعة والعشرين من عمره ابن ملاك في مقاطعة صينية. تفتتن الطفلة الخرقاء بالرجل الهادئ وتقبل أن يقلّها بسيارته السوداء الطويلة إلى مدرستها. في الطريق الذي تشقه السيارة الفارهة، يدور حديث متقطع بينهما، وينشأ الحب فجأة. ينظران من نوافذ السيارة إلى انبساط مزارع الدلتا، الحرارة الجهنمية تتصاعد مع تصاعد حديثهما، يجتازان الأراضي الشاسعة، ثم يتوقف الكلام. "القصة موجودة، والتردد موجود مسبقاً لا يمكننا تجنبه. قصة حب، حب يتمدد دائماً. لن ينسى أبداً".تتوقف الحكاية في الطابور حينما تتصاعد درجة الحرارة في منتصف النهار. يدلف نصف الطابور في جوف المصرف، ويحل صمت الحصن الاستعماري في أطراف الإمبراطورية. أقيم الحصن لصد هجمات البرابرة المزعومة من المستنقعات الملحية والصحراء الشاسعة حول الحصن. يحقق ضابط من المكتب الثالث للحرس المدني يدعى جول مع بدو وصيادين قبض الجنود عليهم وجلبوهم إلى داخل الحصن. بشاعة التحقيق مع هؤلاء البرابرة ترك وراءه فتاة انتزعت من أبيها، مهشمة القدمين، شبه عمياء. بعد رحيل المحققين، يضم قاضي الحصن العجوز الفتاةَ البربرية المحطمة إلى مطبخه، ويعتني بها. تنمو العلاقة غير المتكافئة ببطء وحنان، وليلة بعد ليلة يجرد القاضي الفتاة من أسمالها، لكي تشاركه الفراش. يغسل قدميها أولاً، ويدلك كاحليها، ويمسد جسدها بالزيت، ثم يمددها على سريره. يلتصق بها وينتزع منها الاعتراف بالطريقة التي سملوا فيها عينيها بشوكة حديدية محماة. لم يتأت للقاضي امتلاك الجسد المستسلم والدخول فيه من حيث ساعده وآواه وحنا عليه، فقد وقفت مسؤوليته الأخلاقية عن التعذيب في الحصن حائلاً دون استغلال الضحية وتمثيل التعاطف الجسدي الكامل معها. وبسبب تبروئه من جرائم المكتب الثالث، وإعادة الفتاة إلى قومها، تعرض القاضي للإدانة والعزل داخل الحصن. لن ينمو الحب في قصة استعمارية أبعد من ذلك. كانت رواية كوتزي حكاية قديمة عن تمازج الجلاد الأبيض مع الضحية الخلاسية، حكاية انتقام من عرق متفوق، تحولت إلى قصة حب مدمرة.لم أتزحزح مقدار شبر في طابور المصرف، وخطوتي لا تكفي لكي تتحول الحكاية إلى قصة. قصة الحب التي تنشأ من اجتياز مساحات شاسعة كسهول دلتا الميكونغ، أو صحراء البرابرة. لو أردت أن أحقق في الفضاء العراقي مثل ذلك الامتزاج العرقي، فقد أرسل رجلاً من رجال الطابور الكهول في رحلة إلى بغداد، وأجعله يختار لمبيته غرفة في الطابق الثاني بفندق مجاور لحانوت خمور، في ساحة الميدان بباب المعظم. سيسمع الرجل الكهل تحطيم قناني الخمر على أرض الساحة التي تطل عليها غرفته الليل بطوله. تهب عاصفة ترابية، ثم يهطل المطر مدراراً، ويستمر تحطيم القناني تحت المطر. يتذكر رجل الطابور الذي أوى إلى غرفته مبكراً نزوات شبابه، النساء اللواتي عاشرهن في سفراته، الخمر المسكوب، كل شيء يأسف على عدم فعله إياه.. لكن ل
خارج العاصمة :قصة، حكاية
نشر في: 12 إبريل, 2010: 04:58 م