TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > اوراق :الدفتر الصغير

اوراق :الدفتر الصغير

نشر في: 13 إبريل, 2010: 04:29 م

محمود عبد الوهاب ما إنْ تدخل شارع المتنبي حتى تشعر بأنك اختلفتَ عمّا كنت عليه في الشارع الذي جئتَ منه.  شارع المتنبي مازال هو الصانع الأمهر لأحلام روّاده. دخلتُه مرات، وفي مطلع الخمسينيات حينما كنتُ طالباً  في دار المعلمين العالية دخلته،
 كنت مزهوّاً بمن حولي، الباعة الاستثنائيين، ومباهج الكتب المرصوفة على الأرض، والرجال مطأطئي الرؤوس للبحث عن الكتاب الأفضل، والكلام السخيّ في تفضيل كتاب على آخر، دخلته بحثاً عن دفتر صغير وأنيق معاً، كنت أطمح ألى أن أكتب فيه ما كان يشدّني إلى الإشارات الأولى من القصة التي يبدأ مخاضها.التقطت الدفتر الصغير من بين أقرانه، تحسست جسده زغباً ناعماً، وبزهوٍ قلت للدفتر:  ستكون من بين أقرانك مختلفاً، وستتبوأ على يديّ موقعاً تعتزّ به ، سمعت همس طاعته الحيية، ومنذ تلك اللحظة تماهينا معاً، وفجأة بعد غمرة من هذيان الحلم، استيقظتُ، وشيوخ المعرفة وكبار المبدعين يطلّون عليّ من صروحهم بين أغلفة الكتب، فخجلتُ.رافقني الدفتر سنوات الدراسة، أضعه في الدُرْج كلّما خرجت، وأعود إليه وغلافاه الصغيران ،  ينتشران إلى جانبيه، مثل جناحي عصفور صغير يتقافز إلى من يريد أن يطعمه. أودعته نصوصاً قصيرة وبدايات قصص وأقوالاً من تجربتي المحدودة، كلما عدت إليها  الآن،  أقول بصوت بورخس  من هو ذلك الأحمق الذي كتب كلّ هذه التُرّهات !. كنت، وأنا أكتب، تتلبّسني، وهماً، قامة كاتب، أتصلّب في مكاني، وأصابعي تقبض على القلم بقوة حتى يكاد جسد القلم أن ينشطر.بدأ "الآخر"يزحف إلى دفتري الصغير في رداء مصطلح أو نصّ أو قول، ولم يعد الدفتر الصغير ذلك القرين البريء الذي عرفته، فقد أخذ يفقد هويّته ويصبح هجيناً"ثرّاً". استهوتني المفارقة في تلك السنوات.أتذكر أن مشهداً قصيراً استقطعته من رواية"شبح كانترفيل"لأوسكار وايلد، ضممته إلى الدفتر الصغير، يحكي سارد الرواية كيف أن اللورد الكهل الذي كان يعيش في قصره الفخم فاجأه  الشبح، ذات ليلة معتمة، واللورد في طريقه إلى غرفة نومه، فزع  اللورد أمام الشبح، وارتدّ إلى الوراء، يداه ترتجفان، ووجهه يمتقع فزعاً"حتى كاد شعره المستعار يبيّض". بلغ الدفتر الصغير سنّ الرشد، في السنوات التالية، ولم يعد يستقبل إلاّ سياقات تتمرد على الجمل الكسولة والمتثائبة والمألوفة، وفي هذا المسار، بدأ الدفتر ينأى عن عشقه الأول ورؤاه الحالمة، وأصبح"عقلانياً"، فالشعلة التي كانت تتوهج، في سنوات الدراسة، بدأت تنطفىء، ورمادها أخذ يثوي في القلب.إن مأساتنا، نحن البشر، أننا لا نوهَب الحكمة حتى يكون الشباب قد ولّى، وهكذا انقضت سنوات لا يمكن استردادها أبداً. تغضن جسد الدفتر، وأخذ يستقبل ما ينفعه من مادة لغوية ومعرفة منهجية، فقد أصبح له طلابه ومريدوه الجدد، وتكدست على جسده هموم المهنة، واستحال جسده إلى كتاب مدرسي ، لكنه لم يرضخ أبداً إلى أن يكون"أداة"حسب، ولم يفارق أبداً جموحه ورغائبه كليّـاً، كانت تبرق في روحه، خيالاته الأولى كلّما حاصرته تلك الرغائب. ما زال الدفتر يأخذ بيدي منتشياً، إلى طريق الحلم والكتابة، ومازلنا نقطع معاً خطواتنا الأولى في الطريق إلى"إيثـاكا"، فحلم إيثاكا يتجدد ولن يموت. كلما خطونا في رحلة الكتابة وطريقها المضني الطويل، كنت أسمع قريني الدفتر الصغير يسترجع صوت الشاعر اليوناني الكبير كافافيس: "ستصل إلى الجزيرة عجوزاً.. لا تتوقع أن تعطيك إيثاكا ثراءً.. لقد منحتك  إيثاكا الرحلة الجميلة".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram