TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > موسم الهجرة إلى الشمال..رواية الموهبة

موسم الهجرة إلى الشمال..رواية الموهبة

نشر في: 16 إبريل, 2010: 04:23 م

صلاح نيازيقبل النظر في مغاليق هذه الرواية المرمّزة، قد يكون من المفيد، أن نضع نُصْب أعيننا حقيقتيْن: الأولى هي أنّ الطيّب صالح، شأنه شأن راويته في" موسم الهجرة إلى الشمال"، وشأن مصطفى سعيد، البطل الثاني للرواية، درس في نشأته الأولى اللغة الإنكليزية، على يد أساتذة إنكليز كأساسٍ ثقافي قبل أن يطّلع على الأدب العربي.
لهذه الحقيقة تداعيات مهمّة كما سنرى.الحقيقة الثانية، هي أنّ الرواية وإن تذرّعت الأجواء السودانية المحلية، إلاّ أنها مشحونة بالثقافة الأوروبية، ولا سيّما المسرحيّات الشكسبيرية، وكأنّ كاتبها يحلّل أدواء البيئة المحلية في مختبر علمي مجلوب. (كان رجال القرية، يسمّون مصطفى سعيد: الإنكليزي الأسود).تعلّم الطيب صالح في نشأته الأولى، القراءة التحليلية، تشخيصاً وتمحيصاً، وقد آنعكس هذا في بناء شخوصه، وفي محاولة فهم تصرفاتهم فهماً سايكولوجيّاً. على هذا فإنّه يبذر في البداية، بذرة صغيرة، ثمّ يتابعها مرحلة مرحلة، مختبريّاً. إنّه لا يعطيك رأياً شاملاً واحداً بمصطفى سعيد مثلاً، ولكنّه يجمّعه لَبِنةً لَبِنة ومن وجهات نظر مختلفة.على عكس ذلك ينشأ الطفل العربي، لأن التعليم في مدارسنا معنيّ بالحشو والآستظهار. معنيّ بالحصاد، أكثر مما هو معنيّ بالبذار.على أية حال، ليست هذه الملاحظات، دراسة مكرّسة للرواية، بقدر ما هي تتبّع لأبطال بعض الروايات الآغترابية، وكيف تكيّفوا للعيش بأوروبا، وكيف تفاعلوا مع بيئاتهم الأصلية.يختلف راوية موسم الهجرة للشمال، وخاصّة مصطفى سعيد، عن كلّ الأبطال الآخرين، في الروايات الآغترابية، في أنّه كان يتقن اللغة الإنكليزية، وآدابها، حتى قبل ذهابه إلى لندن.وَصَفَهُ موظّفٌ متقاعد مرّة:"كان أنبغ تلميذ في أيّامنا... معجزة في ذلك الوقت، كان أشهر طالب في كلية غردون... نابغة في كلّ شئ، لا يوجد شئ يستعصي على ذهنه العجيب. كان المدرسون يكلموننا بلهجة ويكلمونه بلهجة، وخصوصاً مدرسو اللغة الإنكليزية، كانوا كأنما يلقون الدرس له وحده دون بقية التلاميذ...نحن كنّا ننطق الكلمات الإنكليزية كأنها كلمات عربية. لا نستطيع أن نسكّن حرفيْن متتالييْن. أما مصطفى سعيد فقد كان يعوج فمه، ويمطّ شفتيه، وتخرج الكلمات من فمه كما تخرج من أفواه أهلها..".لنتوقفْ قليلاً، عند أشهرِ مشهدٍ مأساويّ في مسرحية عطيل، ألا وهو مشهد المنديل وقتْل دزدمونه، وكيف تفاعل معه الطيّب.يظهر آسم عطيل في رواية موسم الهجرة إلى الشمال، ربّما لأوّل مرّة، حين يتعرّف مصطفى سعيد، على فتاة آسمها: إيزابيلا سيمور، و"نوعها كثير بأوروبا، نساء لا يعرفن الخوف، يقبلْنَ على الحياة بمرح وحبّ آستطلاع. وأنا صحراء الظمأ، متاهة الرغائب الجنونية.. وجاءت لحظة أحسست فيها أنني آنقلبتُ في نظرها مخلوقاً بدائياً عارياً، يمسك بيده رمحاً، وبالأخرى نشّاباً يصيد الفيلة والأسود في الأدغال. هذا حسن. لقد تحوّل حبّ الآستطلاع إلى مرح، وتحوّل المرح إلى عطف، وحين أحرّك البركة الساكنة في الأعماق سيستحيل العطف إلى رغبة أعزف على أوتارها المشدودة، كما يحلو لي. وسألتني:"ما جنسك؟ هل أنت أفريقي أم آسيوي؟ قلتُ لها: أنا مثل عطيل. عربي أفريقي".هذه بالضبط الطريقة المختبرية، وكأن المراحل مواد كيمياوية يولّد بعضها بعضاً. الصورة البدائية العارية للصياد، ولّدت حبّ الاستطلاع، الذي ولّد بدوره، المرح. المرح ولّد العطف. النتيجة جاءت كما أرادها مصطفى سعيد،لأنّه إنْ هو حرّك الآن "البركة الساكنة في الأعماق سيستحيل العطف إلى رغبة أعزف على أوتارها المشدودة، كما يحلو لي". لا شكّ، إن البناء هنا ليس آعتباطاً يتولد بالصدفة، أي ليس أشجاراً نامية في مكانٍ ماللا سبب، وإنما هي أشجار مستنبتة ومُمَكْننة إنْ صحّ التعبير.ثمّ هل التعبير: "أوتارها المشدودة " صيغة عربية متوارثة؟ لا أدري لماذا تذكّرنيهذه الأوتار، بوترالليدي مكبث وهي تحثّ مكبث على قتل الملك دنْكنْ. كان مكبث خائفاً من إخفاق خطّة قتل الملك، فقالت:ـــ "نخفق؟حسبك أن تشدّ وتر شجاعتك إلى منزع القوسولنْ نُخْفِق"تتقارب الصورتان لأنهما تؤديان إلى الصيد، والدم.أكثر من ذلك، يقول مصطفى سعيد، في مناسبة أخرى:"أنا لستُ عطيلاً. عطيل كان أكذوبة". هل كان مصطفى سعيد، عطيلاً حقيقياً إذن، أم تمويهاً واقعياً؟ قال:"كنتُ أعلم أنها تخونني. كان البيت كلّه يفوح بريح الخيانة. وجدتُ مرّة منديل رجل، لم يكنْ منديلي. سألتها فقالت: إنّه منديلك. قلتُ لها هذا المنديل ليس منديلي. قالت:هبْ أنه ليس منديلك. ماذا أنت فاعل؟:"...وضعتُ حدّ الخنجر بين نهديها، وشبكتْ هي رجليْها حول ظهري. ضغطتُ ببطء. ببطء. فتحتْ عينيها. أيّ نشوة في هذه العيون. وبدتْ لي أجمل من كلّ شئ في الوجود. قالتْ بألم: يا حبيبي. ظننتُ أنّك لن تفعل هذا أبداً. كدتُ أيأس منك. وضغطتُ الخنجر بصدري حتى غاب كلّه في صدرها بين النهدين. وأحسستُ بدمها الحار يتفجّر من صدرها. وأخذت أدعك صدرها بصدري وهي تصرخ متوسّلة: تعال معي. تعال. لا تدعْني أذهب وحدي".ثمة مقابسة ثقافية آخرى من التصورات الشكسبيرية، في رواية موسم الهجرة للشمال ولا سيّماالتصورات النهرية في مسرحية مكبث. هنا كما في مسرحياته الأخر

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram