هانزبيتر كُونش اتسم اقتحام مصطفى سعيد لأوروبا وانسجامه بانسيابية مذهلة. كأول مبعوث سوداني يحقق حلم وصوله الى لندن، حظي في سن الرابعة والعشرين بتعينه محاضراً للعلوم الاقتصادية، وكم تعلق كِلفا بحرث كتبه الجامعية، توهجت فيه ملاحقة النساء الأوروبيات بهوس جنوني، فتارة تجده يتصدر المنصة خطيباً من أجل "اقتصاد إنساني" ومندداً بالاستعمار.
أما شقته فهي خيمة شرقية منمنمة تعتمد ستراتيجية الإغراء فيها على البخور وأعواد الصندل المحروق -مضفياً علىها- بإهابه الأسود الأكاذيب (اللذيذة) "عن الحياة على ضفاف النيل". بفترة طويلة قبل صمويل هنتجنتون Samuel Huntington "صراع الحضارات" تطرق الطيب الى هذه الموضوعة كشرخ ينسحب على بعض المصائر الفردية لشخصيات الرواية. احتدت المواجهة بمصطفى سعيد عندما التقي بند مثله، [أنت بشع، لم أر في حياتي وجهاً بشعاً كوجهك وفتحت فمي لأتكلم لكنها ذهبت] هكذا تفوهت جين مورس المغازلة لكل من هب ودب والمتحرشة والباحثة عن العراك أينما كان. تزوج سعيد "السوبر عربي" جين الفتاة المتحررة. وياله من ثنائي مجبول على التحرش، كأسلوب متطرف لمواجهة الثقافات. يختم صالح الرواية بفاجعة دموية، حيث تخون جين مورس سعيد "فرضياً" قبل أن يغمد الخنجر في قلبها تحقيقا لرغبتها. عقب سبع سنوات قضاها في غياهب السجن أثر الانزواء فأستقر في قرية صغيرة على ضفة النيل، حيث التقاه الراوي المتحدث بضمير الأنا. تزوج سعيد بفتاة من القرية وأنجبا طفلين وبالرغم من مساهمته الفعالة كعضو نافع في مجتمع القرية إلا انه كان شخصاً غامضاً لا يعرف أحـُدُ عن تاريخه شيئاً، سوى الراوي أثر صدفة أتاحت له الاستراق اليه وهو يتلو مخموراً قصيدة إنكليزية للعائدين من الحرب، فأضطره الى كشف دقائق ماضيه الغابر خوف أن يشي به. بالرغم من مضي ثلاثين عاماً على ذيوع رواية صالح إلا أنها -ومما يدعو الى الدهشة- لم يزل تأثيرها الروحي طاغياً وهذا ما ينطبق كذلك على ترجمتها الى الألمانية التي أتت متأخرة جداً -مما يعلل تزكية الرواية هذه- هو أن القطيعة بين الثقافات رغم التناقض بين التحزب للعولمة أو التظلم منها لم تفقد أهميتها ولان الرواية كُتبت بحريه مُسيطرة. إن تعدد الاحتمالات داخل الرواية لهو مشروط بالفقرات "المقالية" وقصص أهل القرية الشفهية والمونولوج الداخلي وهذه العناصر في حد ذاتها توسع المنظور أكثر من مضمون حياة سعيد غـريبة الأطوار والذي تلاشي دوره مع انسيابية الرواية شيئاً فشيئاً. واختفى سعيد من القرية بعد أن تنازل عن تاريخ حياته، لعله مات منتحراً أو غرق أثناء فيضان النيل. يقف مصطفى سعيد الاقتصادي اللامع -الى جانب قصص شخصيات الطيب صالح- كشخصية متغيرة، محفوفة بالأسرار والأخطار. إن المزج الأخاذ بين أوروبا وإفريقيا -في هذه الرواية- بتباين السرد الزمني من حيث الشكل والمضمون، خول لها التشكل كتجربة انفتاح على الإدراك الذاتي. أجل فالسودان نفسه كمستعمرة أفروعربية سابقة قاوم منذ البداية تحديد هويته على عجل. أما حديث أعيان القرية فيقف بجانب القصص اللندنية وقصة الشاب اليتيم "غير العربي" الذي لا أصل له والغريب على أمه [لا أتأثر بشيء لا أبكي إذا ضربت، لا أفرح إذا أثني على المدرس في الفصل ... كنت مثل شيء مكور من المطاط تلقيه في الماء فلا يبتل، ترميه على الأرض فيقفز]. وجودي، انطوائي، ذاتي، أو ثلاثـتهم معاً. هل يفسر ذلك الإحساس بالتماثل القدسي مع الرواية الذي لا يمت بصله في نهاية الأمر الى نمازج الحياة التي أفردها صالح جنبأً الى جنب دون تقويم وأضح: قبل موته قرر مصطفى سعيد ذلك الإنكليزي الأسود العاجز عن غزو أوروبا الانسحاب من الحياة أثراً التكتم على حياته الأوروبية الغابرة كسر مقدس محتفظاً بذكرياته حول مدفأة ومحاطاً بكتب، أفلاطون، نقد الاستعمار، توماس مان، وفـتـغـنشـتاين داخل غرفه جلوس إنكليزية النمط في تلك القرية الصغيرة على ضفة النيل. يطوق نموذج الحياة العادية للراوي، القصص الاخرى المختلفة في هيكلية الرواية، كعائد أيضاً من أوروبا أبدي استعداداً لإعادة صلته والانسجام من جديد مع حياة القرية وساهم بالخداع المرير في مفتتح الرواية إلا أن طيف حياة سعيد كان يتجابه مع فعله الذاتي وبالرغم من ذلك ظل وسيطاً متأملاً متردداً بين ثـقافـات تتصدرها العقـبات فهو أشـبه ما يكون بالراوي في رواية (قلب الظلام) لجوزيف كونراد Josph Conrad بمطاردته مصير أخر. أما المشهد الختامي الرائع، جاء كنهاية مفتوحة ... أيتبع سعيد الى النيل ...؟ تركت كل قضايا الصراع الحالية تقريباً المتعلقة بالحياة الأفريقية، بعد الاستعمار أثاراً واضحة في هذه الرواية المدهشة التي نُشرت في عام 1966: عواقب التطور (الثورة) التعلىمية. السلوك الاستعماري الحديث داخل البلاد للنخبة الجديدة التي تعلمت في الغرب. حق تقرير المصير للأفراد والثقافات. الوضع الاجتماعي للمرأة وختان الإناث. اقتلوا عجوز الشهوة، إن القصص المتداخلة بمهارة في بعضها البعض تؤدي برمتها الى الكارثة: تدخل أهل القرية لتحقيق رغبه أحد الشيوخ بالتزوج من أرملة سعيد رغم إصرارها على حريتها وكالمعتاد فقد أدرك الراوي حبه لها متأخراً. قتلت الأرملة العجوز وقطعت عضوه بعد
الانكليزي الأسـود على ضفاف النيل
نشر في: 16 إبريل, 2010: 04:32 م