لطفية الدليميكتاب (الذكورة المتخيلة) الذي أعدته الكاتبة الراحلة مي غصوب صاحبة دار الساقي بالاشتراك مع الكاتبة المعنية بقضايا النسوية إيما سنكلير ويب ، يفتح أفقا ظل مغيبا وغائبا عن الانتباه في دراسات الجندر في الشرق الاوسط والبلاد الاسلامية عامة،
إذ غالباً ما جرى التركيز على الوضع النسوي ومشكلاته داخل الوعاء الجندري وحده وتم تجاهل قضايا الهوية الذكورية وتشكلات هذه الهوية وتجلياتها وتأثيراتها في المجتمعات التي حدثت فيها تحولات اجتماعية واسعة على أثر المتغيرات السياسية والانقلابات وعسكرة المجتمع فضلا عن التقاليد الموروثة و الطقوس وتكريس نمطية الذكورة وعنفها. تذكر الكاتبة مي غصوب في تمهيدها للكتاب أن (الحركات الوطنية والاستقلالية أضفت بعض الالتباسات المهمة على موضوعة الجندر، فقد حملت هذه الحركات عنصراً تحديثياً بارزاً- لكنها إلى ذلك انساقت في رغبتها إلى التميز عن السلطة الاستعمارية الغربية- وراء التمسك بعناصر الماضي و(الهوية) وقد يكون هذا أحد المصادر المهمة في تحديد خصوصية علاقات الجندر وتطورها في العالم الثالث).لن اعرض الكتاب هنا بل سأنطلق من هذه الإشارة المهمة وأتحدث عن التباس الاوضاع بعد الاستقلال وما يسمى بالحكم الوطني ، والتناقض الحاصل بين مساعي التحديث واشاعة الديمقراطية والأخذ بأساليب العيش المعاصرة وبين التمسك بالماضي والهوية ايغالا في استعارة نمط سلفي ذي ذكورية فادحة، وهذا التشبث بالماضي والرؤية السلفية للحياة يشكلان العنصر الرئيس في الصراعات العنيفة التي تنخر مجتمعاتنا وتهددها بالتراجع الى عصر الكهوف، فمجتمع حر تخلص من الاستبداد والاستعمار يحاول أن يأخذ بأساليب الحداثة في مختلف مجالات الحياة وأساليب العيش وتوفير الخدمات لمواطنيه، يحجم في الوقت ذاته، بل ويفشل في إعادة تشكيل وتغيير البنى الفكرية الماضوية المتعظية ويعجز عن إشاعة ثقافة مغايرة تتسق مع حقوق الانسان المثبتة في المواثيق الدولية ومنها حق المواطنين في حرية العيش والحركة والسفر والتعبير والوصول الى المعلومات، مما أفضى إلى ازدهار التطرف على نحو متسارع حتى صار جائحة سوداء تأتي على الأخضر واليابس وتغرق العالم بالكراهية والدماء، وأدى التساهل (الديمقراطي) مع التشدد الى فتح أبواب واسعة امام المتشددين لنقد الحداثة ورفضها بل وتدميرها عملياً ورمزيا (تدمير برجي مركز التجارة العالمي) وهو بحد ذاته فعل رمزي لرفض الحداثة، كذلك التفجيرات في محطة قطار مدريد التي تعد من اهم معالم المدينة وتفجيرات المسرح والمترو في( موسكو) وتسميم محطات قطار الانفاق (طوكيو) وما يتبدى الآن في العراق من استفحال للذكورة العنيفة ضد النساء والثقافة وحرية التعبير يؤكد ان هذا السلوك العنيف- الذي يعده معتنقوه فضيلة ذكورية لحماية قيم المجتمع المتوارثة ليس وليد اللحظة، إنه إرث لمنظومة كاملة مترابطة ومتضامنة ضد التقدم وحقوق الانسان وحريته ، مهدت لها عسكرة المجتمع طوال عقود ورسختها الحروب ومانتج عنها من انهيار مجتمعي ونفسي، ورسختها النزعات الطائفية والشوفينية لدى بعض الاحزاب والحركات التي تدعي الديمقراطية وهي تمارس قمع (الآخر) المختلف وقولبته واختزاله وفرض ثقافة واحدة على واقع تعددي، وتمثل النساء القسم الأكبر من هذا ( الآخر المختلف ) الذي تنصب عليه عمليات القمع الذكوري ، كذلك حال بعض المثقفين الذين يعتبرهم المتشددون في السلطة وخارجها - قنابل موقوتة ، كما تطول عمليات القمع الأقليات الدينية والعرقية، ويضطر المرء لخوض صراعات قاسية من أجل انتزاع حريته وحقوقه من محاولات الاختزال والتدجين التي تمارس عليه، لكنه سيتعرض للتشريد والقتل ، ويتنامى عنف الذكورية في العراق في الوقت الذي يعلن نظريا تبني الديمقراطية، غير ان بعض الجماعات السياسية المهيمنة تعمل لفرض أحادية الفكر وتستخدم ثقافة الديمقراطية انتقائيا لتخدم أحادية الثقافة وتنكر على الآخر حرية التعبير وحق النقد واعتناق فكر او اسلوب عيش غير الذي تتبناه على مجتمع تعددي دمرته الحروب ونخره الإرهاب ، يقول خبراء الارهاب العالميون: إن البلدان التي يتفشى فيها الارهاب والعنف هي بشكل عام البلاد التي تحرم النساء من حقوقهن الأساسية وحريتهن، وان حرمان الملايين من النساء وقمعهن يعد من المخاطر التي تهدد الأمن القومي والعالمي، فالنساء المقموعات ينشئن أجيالا ذليلة تتحول بفعل القمع الى تبني ذكورية عنيفة (سياسية وقبلية وطائفية وتعليمية) لتستمر بذلك دوامة الارهاب المدمرة ..
قناديل: الهوية والعنف الذكوري
نشر في: 17 إبريل, 2010: 04:36 م