أسامة الشحمانيلا تروم هذه القراءة الدخول في منظومة الجدل حول إشكالية الموقف من ظاهرة تقسيم المشهد الشعري العراقي على أساس الأجيال، لأنه جدل معاد في كثير من محاوره و تفصيلاته، فضلا عن كونه من النادر جداً أن يتناول مفهوم الجيل بالشكل المُقعِّد له و لكيفيات إتخاذه لأسسه النظرية، أو أن يصب في خدمة المدونة الشعرية العراقية،
فيكون أداة للبحث فيما لمبدأ التجايل من دور في تجانس وإنسجام مهيمنات فكرية وأنساق لغوية وبلاغية لتشكيل ظاهرةٍ ما كان لها أن تنشأ لولا صلة التماثل في السياقات الزمنية والأحداث التاريخية المعيشة، والتي تتخذ من ثمَّ إطاراً يصدق عليه إستعمال مفردة جيل بالمفهوم الذي بينه صاحب اللسان (الجيل صنفٌ أو مجموعة من الناس يختصون بلغة معينة). بمعنى أن تكون أبعاد هذا المفهوم وتعريفاته متعلقة بمجموعة البنيات النسقية التي تضمنها الخطاب الشعري حين إستوعب السياق الزمني كوقائع، ولا نجد خلفية نظرية لأن يؤطر هذا السياق أو يحصر بعقد من السنوات ليحملَ كلُ شاعر اسم العقد الزمني الذي بدأ نشر نصوصه فيه، كما تذهب بعض الدراسات، لأن المقصود من مقياس الزمن هو تحديد الظرف التاريخي كمناخ يحتضن الكتابة، وما يخلفه من أثر على الظاهرة الشعرية، ولاسيما لغتها بوصفها أبرز ركائز أدبية النص. إن ما يطرأ على الأنساق التاريخية من تبدلات هو الكاشف عن هوية الأجيال و الوقائع الشعرية التي زامنتها، وهذا بالضبط ما اشتغل عليه عدد من النقد الألمان ومنهم فيلهلم ديلتاي1 إذ بحث أساليب الكتابة الشعرية بوصفها ردود أفعال للتعاطي مع النسق التاريخي الذي عاشه الشعراء، و كيف أثر هذا التجايل في تكوين وخلق التيار الرومانسي في الشعر الألماني في النصف الثاني من القرن الثامن عشر كظاهرة أدبية إمتد تأثير أبرز من مثلها (غوته ـ شيلر) عقوداً طويلة؟إصطلاح الجيل هو، لدى عدد غير قليل من شعراء العراق، من المحاذير المثيرة حساسية ما زالت مبراراتها الموضوعية مشوشة، إذ لا تحقق لديهم هذه المفردة إستجابات مقبولة حين تكون جزءا من أي دراسة تنصرف للتعامل مع فضاءات ومفاتيح الشعرية العراقية في حقبة تاريخية معينة، برغم درايتهم بأن الكلام عن الأجيال لا يعنى بالضرورة دراسة الأزمنة من منطلق وضع شعرائها في سلة واحدة، لما في ذلك من تجاهل وإقصاء لأبسط مفاهيم الشعرية، كونها تنبني على مبدأ التشاكل والإختلاف، وإن مقولة فحص المعجم الشعري السبعيني أو الثمانيني أو غيره.. هي عنونة إنزياحية تطلق من باب دراسة التنافذ و المقاربة بين الأزمنة و لا تعني إفتراضاً قِبلياً للقطيعة بين الأجيال، لأنها تبحث عن مظاهر الخفاء والتجلي في تعالق مكونات النصوص فيما بينها، وعن كيفية تحول الواقع الذي يشهده جيل معين الى وحدات صغرى تذوب في أنسجة البنى الشعرية، أو إلى إيقونة كتابية تشكل واقعية الحدث فيها أهم مكامن الحركة الشعرية الفاعلة. وعلى طرف نقيض من الموقف السابق لا نجد من يعترض على إستعمال مفهوم الجيل إذا تعلق الأمر بفروع أخرى من موارد البحث في العلوم الإنسانية كالسياسة والتاريخ والفلسفة وعلم الإجتماع، الذي ينطرح مصطلح الجيل فيه بقوة ليعبر عن الظاهرة أو الإتجاه، لاسيما في دراسات العلامة د.علي الوردي، حيث جعله مقياساً شبه وحيد لعلاقات التوافق والإختلاف في التحولات الجوهرية التي تعرض لها المجتمع العراقي، وأكد في غير موضع من موسوعته المعرفية الشهيرة (لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث) قيمة تعاقب الأجيال بوصفها كبرى أدوات التطور والإرتقاء على سلَّم المدنية و التحضر.إن الإشكالية في الموقف الفكري من مفهوم الجيل، كونه مقبولاً في كلِّ دوائر البحث في العلوم الإنسانية، مرفوضاً في القراءات النقدية الهادفة الى تبنيه كأحد معطيات رصد إتجاهات ومهيمنات المنجز الشعري، تدعونا للتساؤل عمَّا إذا كانت هناك منهجية قرائية جديدة علينا أن نتبعها لتلقي الإرث البلاغي والنقدي العربي القديم في دراسته وتصنيفه لطبقات الشعراء، و طبقات المقامات وأصحاب النوادر، وغيرها مما لعب الإشتراط التاريخي (التجييل) فيه دوراً فعلياً في قراءة وتحديد مصائر النصوص؟ تذهب هذه القراءة الى أن الدراسة المنهجية لأي مدونة شعرية على أساس الأساليب والأنماط الحياتية والثقافية التي سادت على أزمنة إنتاجها لابد لها من أن تفرز تلقائياً جملة من التوافقات أو الإختلافات في الأجوبة الشعرية على أسئلة العصر بشكل يجعل الحاجة الى مفهوم الجيل أكثر موضوعية، ولذا يشيع تردد هذه المفردة في دراسات النقد و تأريخ الأدب التي تفرد لحقب تاريخية إنتابتها مستفزات إجتماعية كبيرة، وهذا لا يفترض بالضرورة أن تتلقى النصوص الشعرية كوثائق إثبات لقضايا تاريخية. من هنا لا نرى مبرراً موضوعياً للتملص من إستعمال إصطلاح الجيل الشعري في الدراسات النقدية المفردة لتطور الشعرية العراقية، بوصفها شاهداً على ما تعرض له العراق من هزات في صلب منظومته الإجتماعية والقيمية على إمتداد عقود طويلة من تاريخه الحديث و المعاصر. ثمَّ إنَّ القول بالأجيال الشعرية لا يدل حتى في أبسط تعريفاته على إلغاءٍ أو تذويبٍ للفردية التي يتميز بها جهد كلِّ شاعر عن سواه لتأسيس ملامح تجربته الشعرية. وإذا أخذنا الجيل الأكثر إثارة للجدل في المشهد الشعري العراقي الحدي
محفَّة الوهم، خطاطة شعرية لجيلٍ حافظ على السلَّة ولم يفرِّط بالعنب
نشر في: 17 إبريل, 2010: 04:39 م