TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > من البرج العاجي: شومان وكلارا

من البرج العاجي: شومان وكلارا

نشر في: 18 إبريل, 2010: 05:19 م

فوزي كريم الموسيقى الكلاسيكية، في أداء الحنجرة أو أداء الآلة، في منحى التجريد منها، أو منحى الدلالة التي تعتمد نصاً، عالم من الغنى لا حدود له. الأوبرا تسمو عالياً، لأنها تجمع بين الحنجرةِ، والآلة، والكلمة، والدراما. ولكنها، أحياناً، تبدو أكثر ضخامة من مستمعها،
 وأوسع من قدرة إحاطته. ولي الحق حين أطمع بجمع كل العناصر السابقة في علاقةٍ أكثر حميمة، تليق بكياني الصغير. تماماً كما أطمع، في حقل موسيقى الآلات، من دراما عمل "أوركسترالي" أن تتواضع إلى عمل "موسيقى غرفة"، مثل الرباعية، الثلاثية، أو السوناتا. لأنها هي الأخرى لا تفتقد  عنصر الدراما.قبل أيام حصلتُ على إصدار DVD  جديد بالغ التأثير، وكأنه جاء استجابةً لرغبتي في أن تُقبلَ علي الفنون التي أحب، على قدر حجمي: فيها ما في الابتهال من حميمية. الإصدار بعنوان "الروحان التوأمان" (صدر عن Opusarte). قصةُ حب حارة وتراجيدية، بين الموسيقي روبرت شومان (1810-1856)، والموسيقية كلارا شومان (1819-1896). تُعرض الحكايةُ على شريحة صغيرة من مسرح دار الأوبرا الملكية. مجموعتان على جانبي المسرح: مجموعة شومان الرجالية، من ممثل، مغنٍ باريتون، عازف بيانو، وعازف فايولين. ومجموعة كلارا النسائية، من ممثلة، ومغنية سوبرانو، وعازفيْ بيانو وتشلو. وبين المجموعتين قارئٌ يتلو الحكاية. الممثلان يتحاوران عبر قراءةِ رسائل العاشقيْن قبل زواجهم، ويوميات العاشقين بعد أن جمعهم الزواج. المغنيان يؤديان منتخبات من أغاني شومان، وبضعة من أغاني كلارا. العازفون يرفعون الحوار الكلامي الحار إلى مستوى الحوار الموسيقي المجرد.    المشاركون جميعاً قدراتٌ فنية متفوقة في اختصاصها. والحكواتي ضمناً. ولك أن تتخيلَ تناوبَ الأصوات المنفردة، المتحاورة في الكلمة والأغنية والعزف. لا صخب أوركسترا أو كورس. ولا ضخامة ديكور وحضور أوبرالي مُدهش. بل رسائل متبادلة، بأصوات ممثليْن بارعيْن متباعدين عن بعض. وأغنيات بحناجر مغنين لا تقل سحراً. ثم عزف على واحدة من هذه الآلات المشاركة، كأنه صدى لحني لمعاني الكلمات المثقلة بالعواطف. وكلّ مادة الرسائل، والأغاني، والعزف تعود إلى شومان وكلارا. كانت كلارا، عازفة البيانو، في الحادية عشرة حين التقت شومان، تلميذ والدها مدرس الموسيقى الشهير. وبدأت تجاذبات الحب حين أقام التلميذ في بيت مدرسه. كان يكبرها بسنواتٍ تسع. وفي السنوات التالية تصاعدت حمى الحب بسبب تمنع الوالد عن الموافقة على هذه العلاقة. خاصة أنه كان يحرص على تطوير موهبة ابنته في العزف باتجاه عالم النجوم. الرسائل وحدها كانت صلةَ الوصل. ثم صارت الكلماتُ قاصرة عن أداء الدور في الحوار، فحلّت الموسيقى. كان شومان يرسل لكلارا ما يؤلف. وعبر النافذة يُصغي لأعماله تُعزف على آلة البيانو، مُعبّأةً بعواطفها.كانت كلارا تؤلف أيضاً. ولكنها كانت متفانية لصالح عبقرية شومان. تعزفه منفردة داخل بيتها. وتعزفه في قاعات الموسيقى العامة. حتى لان الأب وتزوجا عام 1840. حينها لم تعد الرسائل ضرورة، ولكن رغبة البوح بينهما جعلتهما يتفقان على كتابة اليوميات. كان شومان حينها في أوج عطائه، في حقل الأغنية. في عام 1841 تألق في الحقل السيمفوني، ثم في حقل "موسيقى الغرفة" في العام الذي تلاه، ثم في حقل موسيقى الكورال بعد ذلك. ومن أجل السمعة والعيش كانت كلارا كثيرة السفر، بصحبةِ شومان، استجابةً لدعوات العزف. إلى أن بدأت معه نوبات كآبةٍ حادة، مصحوبة بمخاوف من جنون وشيك. ولقد أطبق سوءُ الطالع على الموهبة الفذّة، وعلى علاقة الحب النادرة، وعلى العائلة التي اتسعت لثمانية أبناء.حاول شومان الانتحار غرقاً، فلم يفلح. ثم أُدخل مستشفى خاص للأمراض العقلية. وفيه غادر الحياة عام 1856.هذا العرضُ الحكائي، الحواري، الغنائي، الموسيقي، للعلاقة بين موسيقيين عاشقين، نموذجٌ لما يمكن أن تمنحه الحضارة في أعلى مستويات عطائها الروحي. وما من سبيل للخيال في افتراضِ إمكانيةٍ كهذه، لها أن تتحقق في زمان ومكان غير حضاريين. على أن هذا العرض الفني درسٌ نافعٌ لكل راغب في أن يتعلم سحر العلاقة بين الكلام، والموسيقى، والأداء المسرحي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram