محمد خضير في أجمل قصص مهدي عيسى الصقر, تتقمص روح الزوجة الراحلة جسد قطة وتعود إلى دار زوجها في الأيام الأولى من وفاتها حيث يقام مجلس العزاء في حديقة الدار. تلوذ القطة بقدمي الزوج وتتحكك بساقيه, فيحملها ويدخل بها الدار متجاهلاً نظرات المعزين المندهشة.
قصة ثانية من أشهر قصص الصقر, تصور هروب عائلة في قارب تحت جنح الليل من رقابة قلعة على الحدود, إلا أن انكشاف القارب في حزمة الضوء التي تسلطها القلعة على النهر يثير جنون الأب فيخنق طفله الرضيع في حضن أمه ويهوي بالمجذاف على رأس الأم, ويخيب إستئثاره بالنجاة فيسقط صريعاً برصاص حراس القلعة في قاع القارب. ختمت القصة الأولى وعنوانها (العودة ـ 1994) عهداً رومانسباً من تقمصات الأرواح العائدة في قصص أدغار ألن بو, في حين فتحت الثانية وعنوانها (القلعة والقارب ـ 1974) فصلاً من فصول تداعي الأسماء الغائبة في تاريخ القصة العراقية التي طواها الخوف والهروب من القهر. يعود الصقر إلى قلعة الغائبين, متقمصاً شخصيات قصصه وقصص رفاقه, أولئك الذين طواهم المرض والغربة والموت, أولئك الأموات الأحياء, جيل الأخطار, المفصلة حياتهم على مقاسات أزقة ساحة الميدان, وقلعة وزارة الدفاع, وسجن بغداد, وحانات شارع أبي نواس, ومقاهي شارع الرشيد, وجسر الشهداء, وسكة حديد العراق, ومقبرة الشيخ عمر, ومتحف الآثار القديمة.ولد مهدي عيسى الصقر في البصرة عام 1927, وبعد أن قطع دراسته الثانوية عمل في دكان عطارة أبيه, ثم مترجماً في شركة نفط البصرة, ودخل الأدب من بوابة (أسرة الفن المعاصر) التي أسسها مع أصدقائه وطبعت له مجموعة قصصه الأولى (مجرمون طيبون) عام 1954. انتقل الصقر إلى بغداد عام 1969, حيث شكلت مجموعة قصصه الركن الرابع في قلعة الواقعية البغدادية الجديدة, أما الأركان الثلاثة الأخر فقد شكلتها مجموعات (حصيد الرحى) لغائب طعمة فرمان و(نشيد الأرض) لعبد الملك نوري و(الوجه الآخر) لفؤاد التكرلي. صدرت الكتب في عام واحد (1954) وتأخر صدور قصص التكرلي حتى عام 1960. قامت قلعة الواقعية الجديدة على بركان الواقع الثقافي والسياسي لمرحلة ما قبل ثورة 14 تموز 1958, ثم ما لبثت أن تسلل إليها الخراب بعد سنوات قليلة من خمود المخزون الثوري للنفوس القلقة. وخلال سطوتها على مؤسسة النقد الاجتماعي رسخت القلعة مفهوم القصة باعتبارها ((عملية كشف عن مشاعر القاص ازاء حالة أو تجربة حياتية ونقلها إلى القارئ بقوتها ودلالتها)). كانت أبرز سمات قصاصي القلعة الأربعة: الإخلاص والاعتكاف على العمل, البساطة والاختصار في نقل الأحاسيس إلى القارئ, محدودية الإنتاج ومحليته, المجازفة الروائية وندرتها.توزعت الثيمات القصصية لدى قصاصي القلعة بين التهكم الاجتماعي من نماذج الواقع المسحوقة (نوري) والاغتراب والشذوذ الجنسي (التكرلي) وتصوير القاع الفقير بعين طبقية (فرمان), فيما نقل الصقر القادم من الجنوب معه تأثره بالطبيعة وتصويره الجذاب للشخصيات البسـيطة. كان مفهوم الصقـر الواقعي يتلخـص بهذه الملاحظة الطبيعية: سـحب سلسـلة حديدية من الماء, تتكشـف حلقاتهـا جزءاً بعد جزء.التزم قصاصو القلعة بنصيحة عراب النقد العراقي علي جواد الطاهر: ((أحرى الأديب بأن يطور نفسه في حدود نفسه, أي حدود موهبته وخبراته ومعتقده ومخايل نجاحه)). استحسن الطاهر قصة الصقر (دماء جديدة) وفضلها على غيرها من قصصه المكتوبة عن تجارب خاصة بالأثرياء وشذاذهم, وتجارب أخرى مدارها دور اللهو ومواطن السفر. والحقّ أن (دماء جديدة) التي كتبها الصقر عام 1953 سبقت غيرها بالتقاط الأنموذج الفريد من الحشد الزاخر بالنفوس البشرية المتوجهة لزيارة كربلاء, وكان بناؤها الدائري الذي شبهه الطاهر بسورات الماء تنفتح وتنغلق لدلالات تالية تنحو منحاها وتدور في مدارها.بعد انهيار القلعة, اختار مهدي الصقر إحدى وعشرين قصة قصيرة من حصاد سردياته المتراكم بين 1950ـ 1988 وطبعها تحت عنوان (أجراس) صدرت في بغداد عام 1991. أراد القصاص المثابر أن يشيد صرحاً أنطولوجياً منفرداً يتوسـط ((إقطاعيته)) السردية, دالاً بها على لمحات معمارية تبشيرية تكسر جهامة القسمات البطريركية لرواد القصة العراقية, وتندمج بعمارة الجيل القصصي الخارج على التزامات الفن الموروثة من الفترة الملكية, ورهاب الواقع السياسي بعد ثورة 14 تموز. بنى الصقر عمارته السردية في منتصف المسافة بين البصرة وبغداد, ونقل إليها ملفات المواطن البسيط الضائع في وسط بيئة غريبة زاخرة بالسطوة والملذات السرية, ثم ما لبث أن زحف الليل ومخاوفه على هذه العمارة أيضاً.هبط الليل على أبهاء القلعة التي بناها واعتزل فيها, حتى لتسمع أنات الصوت الآتي عبر الهاتف من بغداد, منجرفاً مع تيار الحوادث العنيفة مثل قارب يحمل زائراً غريباً لم تستطع أنوار القلعة أن تكشفه. انحسر الضوء, ثم صمتت الأجراس, وسُحبت سلسلة القصص من الماء. همد الصوت في ضحى الأربعاء من منتصف آذار 2006, وختم عليه المساء بقرار منع التجوال في عاصمة الغليان السياسي, وأطبق صباح الخميس التالي أبواب الحظر على قلعة الحكايات, فلا قدم تمشي ولا صوت يحكي. كان هذا يوماً فاتراً لنهاية فاترة, وختاماً صامتاً لهجرة بدأت من (شط العرب) واستقرت
خارج العاصمة: عودة الصقر
نشر في: 19 إبريل, 2010: 05:32 م