شاكر لعيبيبين حقبةٍ وأخرى من تطوّر الشعر العربيّ الحديث يُعاد الاعتبار لظواهر أدبيّة قديمة و"شعريات" مُهْمَلة كما لأصوات ظلتْ حتى الحين مركونة جانباً، وفي أحسن الأحوال اعتبرتْ طرفةً لا غير. نتذكر في هذا السياق العودة المحمومة للشعر والنثر الصوفيين (النفري مثلاً)،
وللشعراء الزنادقة، ولأدب الرحلة الثري الغنيّ، وللأدب الأيروتيكي، حكايةً وشعراً ونثراً، وغير ذلك من الأنواع الشعريّة والسرديّة العربية (المقامات، وألف ليلة وليلة....) التي فُحصتْ من جديدٍ على ضوء المتغيّرات المفهوميّة والنظريّة واللسانيّة المُحايثة.إن لهذه العودة أكثر من دلالة في تاريخ الأفكار والأنواع الأدبية، لأنها تشير إلى أن السيادة التي تُمنح عادةً لنوعٍ أدبيّ أو ضربٍ شعريّ أو ممارسةٍ وجوديةٍ ليست مطلقة الأهمية، وأنه لا يجب فهمها إلا في سياق لحظةٍ سريعةٍ من التاريخ. هذا الأخير يمكن أن يعيد ترتيب الأولويات بل بإمكانه قلب الطاولة مُظْهِرَاً ما لم يكن يُرَى من العناصر المخفيّة تحتها.وفي الحقيقة بَرْهَنَ تاريخ الشعر العربيّ على أن هناك الكثير من الظواهر والنصوص المهمَّشة مما يمتلك قيمة نصيّة عالية ومما يُقدِّم الأدلَّة على مُناهَضَةٍ شبه تامةٍ للأسلوب المنمَّط الثابت الذي قُعِّد بوصفه (الأسلوب الوحيد) الرفيع الجدير بالنهج على منواله. تلك النصوص تقف على شاطئ بعيدٍ مهجورٍ، بينما تقف على الشاطئ المقابل المُزدَحم، النصوصُ الجاهزةُ الوفيرةُ الغزيرة. ثمة مغزى لن يفوت على أحد يقع في أننا لن نتذكَّر اليومَ الكثيرَ من شعراء النمط والعمود المُقِيْم. سيتساءل المرء كيف أنه لا يعرف أو يعترف بشاعرٍ مثل العباسيّ محمود الوراق رغم أن كبار مؤلفي ونقاد العصر أمثال المبرد والأصفهاني والجاحظ والتوحيدي والعسكري والوشّاء والجرجاني والدينوري والثعالبي وابن الشجري وابن المعتز والسيوطي كانوا يستشهدون بشعره، لأنه فحسب كان يتبع النهج المقبول والحكمة المزعومة.لعل أبا العبر الهاشمي (ت 862 م) الذي نعتبره الشاعر السوريالي الأول مثال على هذه (المُناهَضَة) التي يجب أن نقول إنها كانت "واعية"، الأمر الذي يمنحه أهمية مُضاعَفَة في سياق تاريخٍ شعريٍّ يُنافح عن فخامةِ اللغة ورصانتها من جهةٍ، ويَرْكُن من جهة أخرى، إلى عقلنة المعاني. إزاء الرصانة ذهَبَ نحو الرطانة، وأمام العقل فضَّلَ عالماً خارجاً مما يمكن أن يسميه علماء النفس (باللا وعي) وإنْ بأشكاله الجنينيّة الملائمة لزمنٍ مضى.لهذا السبب يمكن إدراج محاولة قراءته في إطار إعادة الانشغال بصوتٍ طالما جَلَبَ انتباه معاصريه ومن تلاهم، من دون أن يمتلكوا رؤية أخرى غير (الرؤية الطرفوية) لأدبه ووضعه الإنسانيّ. نزعم الآن إمكانية حضور رؤية أخرى للرجل، لأننا نلتقط، على ما يبدو، ما هو ملائم لحساسيّة قرننا ومشكلاته الأدبية الكبرى. من هنا بالضبط تلك العودة العربية للشعر الصوفيّ في القرن العشرين، ومن هنا أيضاً انتباهتنا الأولى لأبي العبر الهاشميّ، منذ أوسط الثمانينيات، عندما كرَّسنا له فقراتٍ طوال بوصفه شاعراً سوريالياً، في دراسة كان ادعاؤها الكبير وجود (نواةٍ للشعرية) عابرة للتاريخ، من أجلها مرَّتِ الدراسة وفحصتْ أسماء شعرية ممنوحة صفاتٍ لاحقةٍ على وجودها الزمنيّ مثل (الوجوديّة) و(الواقعيّة) وغير ذلك. لقد سمّيناه سوريالياً ضمن منطق نسبيّ سنظلّ نشدّد عليه. أعِيْدَ نشر الدراسة نفسها لاحقاً بتحويرات قليلة في كتابنا "لغة الشعر" المنشور عام 2003 بأخطاء طباعيةٍ جمة. لم تكن الملاحظات المكتوبة بشأن أبي العبر لتشفي الغليل، وهو أمر استدعى العودة إلى المزيد من المصادر التاريخيّة من أجل العثور على المزيد من النصوص له. واستدعى كذلك الكثير من الوقت الذي طُيع أثناءه، في دمشق، كتابٌ عن أبي العبر في نطلق حمّى التسابق العربيّ الموسوم بالفوضى.أشعار أبي العبر القليلة المبثوثة هنا وهناك في كتب الأدب العربيّ الكلاسيكيّ، مُدْرَجَةٌ في نطاق حكاياتٍ مُضْحِكةٍ عندما يتعلق الأمر بنصوصٍ متطرِّفةٍ شاذة، أطلَقَ عليها بعضُ النقّاد القدامى وصف "الرطانات". سوى أنه عندما تعلق الأمر بنصوص "جادة" له تسير على هدي العمود الشعري ولغته الثابتة فلأن الاستشهاد بها في تلك المصادر يصير برهانَ المؤلفين على براعته ومعرفته العميقة باللغة وفنونها. برهان ينسى أن خياره "السورياليّ" لم يكن سوى خيارٍ صاحٍ شخصيّ وبوعي كاملٍ من طرفه. مفاجأة المُصنِّف أبي سعد منصور بن الحسين الآبي (ت 421 هـ) في كتابه (نثر الدُّرّ في المحاضرات) أساسية، لأنه الوحيد الذي يقدِّم للقارئ نصوصاً نثرية صريحة في "سورياليتها" بل أنها تبرهن على أن أسلوبه يخرج، بوضوحٍ شديدٍ، عن أسلوب ومماحكات الشعراء المُجّان لأنها تطلع من مخيلةٍ مختلفةٍ. وُصِفَ الفن الفنتازي بأنه مشحونٌ بالشاذ المُخالِف للمألوف وما هو غير لائق والمُشـْتبَه به والمَخـْشِيّ منه، يُضاف إليها في حالات كثيرة القلق المتأصل في روح الكائن الإنسانيّ. وفي إطار هذه الأوصاف أو ما يماثلها يمكن كذلك فهم ما بقىَ من أبي العبر الهاشميّ ودائماً في نطاق عصره.إننا نحسب أن النصوص التي
تلويحة المدى :أبو العبر الهاشمي: السوريالي الأول
نشر في: 23 إبريل, 2010: 05:04 م