تركي الحمد "لقد اصبحت بغداد فريسة جريحة بأهلها، جثث متحركة، لا إرادة لها، فبغداد تنزف ولم يبق منها الا جروح متقرحة. ولكن برغم الجو المشحون بالرعب والجوع ، ما زالت عيون الناس ونظراتهم تخفي تحتها معارضة صامتة، وتحت ذلك القنوط واليأس يكمن بركان خامد"
..(من مقدمة بلقيس شرارة لرواية شقيقتها حياة شرارة "اذا الايام اغسقت" الذي اخترناه عنوانا لهذه المقالة – المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2002 ص73) مهما تحدثنا عن العراق، وما حدث في العراق ومن العراق وعلى العراق ، فإنه لايعكس الصورة الحقيقية التي آلت اليها حياة الانسان في ارض السواد وما بين النهرين نتحدث في تحليلاتنا عن اشياء كثيرة وحول مفاهيم كبيرة ، وخطر هذا على ذاك، وذاك على هذا، وسيناريوهات ما بعد هذا وذاك، وننسى في خضم ذلك كله الانسان نفسه وكيف فعلت به ايام نحسبها نحن بدورة الفلك، ويحسبها العراقي بحسابات لا علاقة لها بشمس او قمر، أنهيت قراءة "اذا الايام اغسقت" ومن قبلها "الغلامة" لعالية ممدوح والمسرات والاوجاع، لفؤاد التكرلي، وتل اللحم لنجم والي، فأدركت الى أي درك سفلي وصل الانسان في العراق، واي مآل آلت إليه الشخصية العراقية، تلك الشخصية المتمردة والفخورة بذاتها، اقارن بين البؤس الذي تزخر به هذه الروايات –الشهادات ، وبين ذلك الامل والحلم والكبرياء التي تحدث عنها فاضل العزاوي في "الروح الحية:جيل الستينيات في العراق" أو نجيب المانع في "ذكريات عمر أكلته الحروف" وغيرهما، فأكاد اشك ان المتحدث عنه عراق واحد، أو هو ذات العراق. في غابر ايام غسقت، كان بدر شاكر السياب يصرخ في وجه الطغاة في بغداد قائلا: "الموت في الشوارع والعقم في المزارع، وكل ما نحبه يموت، الماء قيدوه في البيوت، وألهث الجداول الجفاف...أهذه مدينتي؟جريحة القباب فيها يهوذا احمر الثياب يسلط الكلاب على مهود اخوتي الصغار.... والبيوت تأكل من لحومهم، وفي القرى تموت عشتار عطشى، ليس في جبينها زهر،وفي يديها سلة ثمارها حجر،ترجم كل زوجة به، وللنخيل في شطها عويل" (من قصيدة السندباد)، رحم الله السياب، فلو كان حياً اليوم، لمات الف ميتة وميتة قبل ان يموت فتلك الايام الغاسقة التي كان يصرخ في وجهها متمرداً وثائراً، هي افضل الف مرة من ايام اليوم،بل هل تجوز المقارنة؟ والبؤس هنا ليس بؤس البحث عن لقمة تسد الرمق،وان يصبح ذلك هاجس الجميع في بلاد لديها من الانهار اثنان، ومن النفط منابع في الشمال والجنوب ومن الارض اسودها، ومن السماء أمطرها، الكل في العراق، الا فئة قليلة غلبت فئة كثيرة، من استاذ الجامعة حتى اولئك الذين يكنسون شوارع الرشيد وابي نواس والمتنبي يبحثون عن لقمة سكت صراخ المعدة ، منذ السحر وحتى الغسق، وكل ذلك مهما كان قاسيا، ليس فيه شيء من البؤس، البؤس في العراق اصبح بؤس الروح التي اصبحت دون روح، والحياة التي اصبحت دون حياة، الخوف يلف كل شيء بردائه، وملاك الموت يراقب الانفاس حتى يتأكد من ان لا نفس الا نفس الزعيم، ولا خفقة قلب الا وهي تهتف باسم الزعيم: "تعاظم الخوف في دواخلهم..لم يكن خوفهم ذلك الخوف الغريزي الذي يشعر به الحيوان في الغابة.. وانما خوف يجمد الروح ويشل الاوصال ويميت الكلمات على الشفاه، ويبعث الفزع في العيون ويظل المرء مسمرا في مكانه ، في تلك الزاوية الضيقة التي حصر فيها ولايتحرك منها الا بارادة غيره" "ان القلق والترقب لايضعفان الاعصاب وحدها وانما يبريان الروح وينهكانها ويشوشان الذهن.." يقول الدكتور نعمان ، بطل "اذا الايام اغسقت".انه الوضع الذي تصبح فيه ذات الحياة مشكلة "فالانسان يتواجه مع مشاكله في الحياة، عادة بما يملك من صبر وقابلية على المناورة"؟ وذلك كما يقول توفيق بطل "المسرات والاوجاع" انه الخوف الذي ينتفي عنده معنى أي شيء وكل شيء ، فيصبح مجرد الحفاظ على الحياة بؤسها ، هاجس الهواجس وغاية كل غاية: "لقد استبدلت الكلام بصوت اعتيادي بالوشوشة،لأنني مسكون بالخوف، لا في عقلي الواعي وحده وانما في كل حواسي وأوصالي :يداي ترتجفان اذا سمعت صوتي العالي وركبتاي تخوران وعيناي تزوغان وأرنبة انفي تهتز وانفاسي تلهث وريقي يجف والدماء تجمد في عروقي، واصبح ظلا لا نور فيه لشكل آدمي ظاهريا، بناء ورقيا واهيا ومهتزا" (اذا الايام اغسقت ص84) ربما يكون كنعان مكية قد قال الكثير في "جهورية الخوف" وربما قال غيره اكثر عما يحدث في بلاد السياب والجواهري والرصافي والوردي، وارض المن والسلوى، ارض الرشيد والمأمون ومدارس الكوفة والبصرة واحلام شهرزياد في مدينة السلام، ولكن كل ذلك لا يصف الحقيقة الصافية كما تصفها رواية شهادة، تعكس هواجس النفس، والخوف عندما ينخر العظام، وبؤس الذات عندما تصبح عدواً لذاتها ومتلصصاً على نفسها وجاسوساً على تلك الخلايا القابعة في الاعماق. يتحدثون عن الحصار وما فعل الحصار كثيرا، ويتحدثون عن تلك الاموال المهدرة، والخيرات المبعثرة التي اوصلت العراقي الى ما هو عليه من بؤس مادي وتشتت ف
إذا الأيام أغسقت وإذا الأحلام تبعثرت
نشر في: 28 إبريل, 2010: 04:40 م