لطفية الدليميمن أبرز ممارسات الكاتب الإسباني خوان غويتسولو الجريئة- غير رفض الجوائز التي تتقاطع مع مواقفه وأفكاره- تعديلاته الدائمة على أعماله الأدبية عند إعادة طبعها، أمر مدهش يتخطى التقنينات السائدة في أوساطنا الثقافية الساكنة، فثمة نقاد عرب وأجانب يعدون مراجعة العمل الأدبي وتعديله في فترة لاحقة عملا غير مقبول، لأنه يمثل مرحلة محددة من حياة ووعي ومهارات كاتبه،
بينما يقوم غويتسولو بإعادة طبع مؤلفاته في مجلدات جديدة لتوفيرها لأجيال من القراء لم تطلع عليها، ويعمد إلى قراءة ثانية يمارسها لأعماله، قراءة فيها قدر من نقد ذاتي لمتخيلات سابقة، يعلق غويتسولو على هذا الموضوع «لقد قرأت أعمالي كما لو أنها لم تكن من تأليفي، بل من تأليف شخص آخر، وفوجئت بمفاجآت بعضها طيب وبعضها الآخر سيئ»، وألمح غويتسولو إلى «أن عمل المراجعة تلك كان تجربة مثيرة شبيهة بقيمة الاسترجاع». كيف يتقبل العقل السكوني فكرة تجديد العمل التخييلي وتعديله، وجعله أكثر صفاء وجمالا؟ هل يتاح لكاتب عربي أن يتخذ هذا الإجراء الفني، وهل بوسع الكاتب أن ينقح أعماله؟ يقول غويتسولو: «للمؤلف الحق في تجويد عمله في أي وقت، فواجبه أن يقدم للقارئ في كل حقبة نصا يكون أكثر نقاء». لكن غويتسولو يستدرك: إن حق المراجعة ممكن ومسموح للعمل الأدبي، ولا يمكن إجراؤه على الأعمال الفكرية والنقدية، لأن ذلك مخلٌ بميثاق الكتابة وشرف الكلمة، فإذا أخطأ أحد فكريا أو في موقف ما، عليه الاعتراف بخطئه حتما.. يقول النقد: ربما يؤدي التعديل على العمل الإبداعي إلى تغييرات فنية ودلالية تغير هوية العمل، فيبدو عملا مختلفا تماما، ويرد غويتسولو: أن النص هو ملك كاتبه، وعليه أن يتحمل مسؤوليته ويجوّده مادام على قيد الحياة، بمعنى أن العمل الإبداعي يبقى مشروعا قابلا للتعديل والتنقية والإضافة كلما أعيدت طباعته، فكثير من الأعمال الأدبية وحتى الكبيرة منها ولكتاب عالميين، تنطوي على هفوات أو مواطن هشة كان بوسع الكاتب تجاوزها، ويأتي غويتسولو الشجاع في كل شيء ليختط لنفسه نهجا مغايرا من دون ان يلتفت لإمتعاض بعض النقاد التقليديين ، فيقدم على إدخال التعديلات وتصفية النص من الشوائب او الهفوات ، لكنه يؤشر مواقع التعديلات في هوامش ملحقة، من أجل المقارنة مع النص في شكله الأولي. ولأن لغويتسولو جهودا نقدية كبيرة، وله محاضراته ومقالاته حول الأدب والرواية خاصة، فهو جدير بأن يتخذ دور الناقد الأول لأعماله، ويتجاوز الخطوط الحمراء التي يضعها النقد على المبدعين ممن يراجعون أعمالهم ويجودونها بين حين وحين، ولأنه عاش حياة حافلة بالتوترات الدينامية، وكابد فظائع كثيرة تحت حكم فرانكو الديكتاتوري، وهو مخاطر شهير ورحالة مجازف، يحق له تجاوز محددات المدارس النقدية، معتمدا على تجربته الطويلة في الكتابة والعيش والمعرفة، فهو لم يضع في أعماله النقدية مفاهيم نقدية جامدة، بل اعتمد على حدوس المبدع وذكائه الفائق ورهافة تحسسه للإبداع، وامتلاكه لذاكرة خصبة، مع إيمانه بقدرة الأدب على تطوير الحياة الإنسانية وتجديدها في مواجهة الموت وانهيار القيم، وكما يؤمن غويتسولو بأن أساس الإبداع هو الحوار المفتوح الدائم والمنتهك للحدود بين الأشياء، والقراءة مغامرة تمارس القبول والرفض، فهو لا يرتضي أن يكون من القراء أو النقاد الذين (يجترون علف الأسلاف) بل يفضل أن يكون منشقا، كما يقول عنه الدكتور محمد برادة في مقدمة كتاب عصافير تلوث أعشاشها، ويؤكد غويتسولو على موضوعة التطور الروائي في عدم تقليد السابقين أو المهيمنين على الواقع الأدبي أو الاستجابة إلى تيار معين في الكتابة، فأعمال سرفانتس هي ثمرة تطور عضوي دون الأخذ بمعايير العصر وأذواقه، ويعني هذا أنه يحق للمبدع الذي يسعى للتفرد والاستفادة من الثقافات المختلفة ومن نتاجات الماضي والحاضر في التحرر من الأطر والمعايير المسبقة، وبناء نصه بأسلوبه الخاص دون خوف من النقد الجامد، فالنقد لابد من أن يعمل، ولكن المبدع الشجاع يدع الأحكام النقدية المحنطة المستندة إلى معايير جامدة تنزلق على جلده دون أن تخترقه، أو تؤثر في مسار اختطه لحريته الإبداعية، إنه لدرس مهم من مبدع كبير، يعلمنا تجاوز أنفسنا ومن حولنا باختياراتنا الحرة وعدم اجترار علف الآخرين.
قناديل:تجويد النص وعلف الآخرين
نشر في: 1 مايو, 2010: 04:52 م