محمد خضير " ـ أيها العبد، امتثل لأوامري! ـ لبيك، سيدي، لبيك! ـ سرْ، اذهب واطلب وأكدنْ لي العربة: فإنني ذاهب إلى البلاط. ـ اذهب إليه، سيدي، اذهب إليه! فستلقى فيه فائدة. وإذ يراك الملك سيغمرك بالإكرام! ـ إذن، كلا، أيها العبد، فإني لن أذهب إلى البلاط!
ـ لا تذهب إليه، سيدي، لا تذهب إليه. فإذ يراك الملك قد يرسلك في طريق مجهولة، ويلقيك في الصعوبات نهاراً وليلاً". ***** " ـ أيها العبد، امتثل لأوامري! ـ لبيك، سيدي، لبيك! ـ إذن ماذا ينبغي أن أفعل؟ أن أحطم رقبتي ورقبتك، أو ألقي بنفسي في الماء؟ هل هذا ما يجب فعله؟ ـ فمن الكبير الذي يبلغ السماء؟ ومن الواسع بحيث يضم الأرض كلها؟ ـ إذن، كلا، أيها العبد! سأقتلك وأرسلك أمامي. ـ أجل، ولكن سيدي لن يعيش بعدي ثلاثة أيام!"**** هذان المقطعان مفتتح قصيدة حوارية وخاتمتها مؤلفة في نهاية الألف الثاني أو مطلع الألف الأول قبل الميلاد، مكونة من أحد عشر مقطعاّ. إلا أن حظها من غنائية الشعر ضئيل، إذ يدخلها علماء الآشوريات في باب (أدب الحكمة البابلية). ولا يقف تصنيف القصيدة عند هذه الحدود، فقد عدّها الدارسون لغزاً أدبياً مصبوباً في قالب حواري ساخر، وإشكالية فلسفية سبقت علم الكلام الأفلاطوني بمراحل. والأهم من كل ذلك، يقلب النص الحواري قواعد الخدمة بين سيد قصر شهواني متبطر وكسول، وخادم مطيع وحكيم، رأساً على عقب. ولعله من أقدم النصوص الحوارية التي يسمع فيه المحاور صدى كلامه، وتواجه الحكمة المعتدلة صنوها المضاد، وتجد قيم الحياة المثالية ـ كالعمل والطاعة والإيمان ـ نقيضها التهكمي العابث، بعد أن كانت خطابات التضرع والمناجاة المنفردة النوع الوحيد المرفوع إلى أبواب الآلهة الصمّ. بوّب الشارحون القصيدةَ الحوارية في عشرة أبواب (أشهرهم ج. لامبرت مترجم القصيدة عن الأكدية): التردد على البلاط، الوليمة، الصيد، الزواج، المنازعة، الثورة، الحب، العبادة، التجارة، الإحسان، أي معظم الموضوعات السردية المتسربة من الألواح البابلية الكلدانية إلى أسفار العهد القديم. يبدأ كل مقطع في الحوارية بأمر يوجهه سيد القصر إلى خادمه يطلب منه أن يساعده في تنفيذه، فيمتثل الخادم فوراً لرغبات سيده ويطري محاسن طلبه، حتى إذا تراجع السيد فجأة وتطيّر من العمل المطلوب، أسرع الخادم ووافق سيده وذم ذلك العمل. وعلى هذا المنوال من الرغبة ونقضها، والعمل واحتقاره، يجري الجدال خلال عشرة موتيفات متتالية. فلا شيء ثابت، ولا تستحق رغبة عابثة التضحية بالوقت من أجلها. وأي جدال أغنى للنصوص الرواقية واللاأدرية والتوراتية من هذا الحوار المبلبل؟ فإذا استفرغ السيد المتبطر غايته الماكرة، وحلّت الإشكالية لغزها المخبوء، قلب العبدُ خاتمة الجدال فعكس لهجة الريبة والتشاؤم ضد سيده فالتهمت حيّته عصاه وأبطلت سحره وشهواته. إلا أن خاتمة الحوارية لا تجيب على السؤال الإشكالي (الديني والفلسفي) إجابة قاطعة، فليس هذا شأن الروح المرحة المستهزئة، وإنما هو شأن الحكمة المذخورة في الأسفار المقدسة، وما على الأولى إلا أن تتمادى في فتح الباب على موتيفات معبرة عن أشكال العبودية الإنسانية في ظرف تاريخي مغاير. ستهبط الآلهة في صيفيات أيار من عليائها كي تشارك: بغي المعبد، وقنّ الأرض، وعامل المطحنة، وخطاط الرقم الطينية، ومحارب العربات الآشورية، وبنّاء البيوت، وشاعر البلاط.. جلسة الجدال الأرضية، وتستمع على مضض واصطبار إلى سخرية العبيد المحملة بكنايات الريبة والتشاؤم. أما السؤال الأساسي: "ما العمل؟" الدائر على الألسنة (الأكدية والكلدانية والآرامية) فسيعود محوّراً من (سفر الجامعة) القديم بتهكمه ولغزيته الأدبية الحوارية: "لكل أمر أوان ولكل غرض تحت السماء وقت: للولادة وقت وللموت وقت، للغرس وقت ولقلع المغروس وقت، للقتل وقت وللمداواة وقت، للهدم وقت وللبناء وقت، للبكاء وقت وللضحك وقت، للنحيب وقت وللرقص وقت، لنبذ الحجارة وقت ولجمع الحجارة وقت، للاعتناق وقت وللإمساك عن المعانقة وقت، للتحصيل وقت وللإضاعة وقت، للحفظ وقت وللنبذ وقت، للتمزيق وقت وللخياطة وقت، للصمت وقت وللمنطق وقت، للحب وقت وللبغض وقت، للحرب وقت وللصلح وقت.. فأي فائدة للعامل مما يتعب فيه؟" . rn rn rn(المصدر: بلاد الرافدين: الكتابة، العقل، الآلهة ـ جان بوتيرو ـ ترجمة: الأب ألبير أبونا ـ بغداد ـ 1990)
خارج العاصمة: حوارية السيد وعبده
نشر في: 3 مايو, 2010: 06:20 م