فريدة النقاشقال المخرج التقدمي الأمريكي (أوليفرستون) واصفا فيلمه التسجيلي الجديد (جنوب الحدود) عن الرئيس الفنزويلي (هوجو شافيز) (إنها المرة الأولي في التاريخ التي يشابه فيها رؤساء عدة دول في منطقتنا الأشخاص الذين يحكمونهم).
ويقصد (ستون) بهؤلاء الرؤساء (لولا داسيلفا) في البرازيل الذي خرج من معطف النضال العمالي النقابي بعد أن عمل في بداية حياته ماسح أحذية وانتخبه شعب البرازيل لدورتين متتاليتين أو (ايفو موراليس) رئيس (بوليفيا) الذي انحدر من سكان بلاده الأصليين من الهنود الحمر، وحمل في ذاكرته ما اختزنته الروح الشعبية من ذكريات عن كفاح كل من العبيد و(تشي جيفارا) في بلادهم حين حرض الأخير الفلاحين وأبناء العبيد الذين أذلهم وأهانهم المستعمرون الإسبان والأمريكيون ونظمهم لمقاتلة مستغليهم وقاتل جيفارا بنفسه في صفوفهم إلي أن حاصرته المخابرات الأمريكية وقتلته خوفا من إشعاع الثورة الكوبية التي كانت قد انتصرت، وتحسبا لامتدادها إلي كل أمريكا اللاتينية الخاضعة للإمبريالية الأمريكية وكانت أمريكا قد سلحت نظما ديكتاتورية قمعية لإخضاع شعوب القارة دفاعا عن مصالحها غير المشروعة. أما (هوجو شافيز) بطل الفيلم الأخير لـ (ستون) والذي جاء بدوره منتخبا لدورتين بأصوات الفقراء والمهمشين والهنود الذين ينتمي إليهم، ورتبت له المخابرات الأمريكية أكثر من محاولة لقتله أو إزاحته، ولكنه اعتمادا على شعبه وعلى المؤسسات الجماهيرية التي أنشأها نظام استطاع أن ينتصر ديمقراطيا علي كل مؤامرات الأعداء الطبقيين والاستعماريين. واستطاع (شافيز) في نفس الوقت أن يحافظ - بمعونة الطبقات الشعبية ودعمها - على الحقوق التي حصلوا عليها في ظل النظام التقدمي، وبطبيعة الحال فلا يزال كل من (داسيلفا) - الذي رفض بالمناسبة أن يغير الدستور لكي يمد فترات حكمه لأكثر من دورتين رغم أنه كان يستطيع، كذلك (إيفو موراليس) و(شافيز) يواجهان صعوبات شتى تتمثل في عنف الأعداء الطبقيين والتعقيدات الهائلة في العلاقات الاجتماعية المركبة وقوة كبار الرأسماليين وثرائهم وأشكال التردد والميوعة التي تميز الطبقات الوسيطة أو ما يسمي بالبورجوازية الصغيرة وهي تتطلع إلي الصعود والإمساك بتلابيب الطبقة الرأسمالية ونمط حياتهم، ولم تنضم بعد بشكل حاسم للعمال وصغار الفلاحين. عرف هؤلاء القادة الذين يشابهون شعوبهم وقد منحوا لهذه الشعوب كل ولائهم أن ينبوع الأخلاق الثورية لا ينضب كما علمهم (فيديل كاسترو) هو الذي رفع نظامه المحاصر في كوبا شعار (نعم أنا أستطيع) حين صمم برنامجا لمحو الأمية أخذ المعلمون الكوبيون المتطوعون ينفذونه في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية ليخلصوها من عار الأمية، وحين استعار (باراك أوباما) هذا الشعار البليغ ليصبح أداة حملته الرئاسية لم ينسبه أحد لأصحابه الأصليين الذين حين قالوا نعم نستطيع كانوا يغالبون قوة الإمبريالية القاهرة بقوة الإرادة والتصميم والتنظيم والثقة اللامتناهية في قدرات الشعوب وثراء تجربتها. فكيف انتصر هؤلاء جنوب الحدود وحافظوا علي انتصارهم؟ لعل المتابعة المتأنية لتجارب هذه البلدان ومسيرتها التي أدت لانتخاب رؤساء يمثلون الطبقات الشعبية حق تمثيل تدلنا على أن عنصر الوعي لعب دورا رئيسيا في هذه المسيرة الظافرة. إذ نضج الوعي الثوري لدي الطبقات الشعبية في أتون الكفاح المرير ضد النظم الديكتاتورية والتضحيات الباهظة التي قدمتها هذه الشعوب وفي القلب منها أحزاب تقدمية ومجتمع مدني نشيط ونقابات أصبحت حرة عبر النضال.وكان هذا الوعي ومايزال عنصرا حاسما في تأكيد ديمقراطية ونزاهة الانتخابات العامة التي حملت هؤلاء الرؤساء إلي سدة الحكم، وحدث ذلك كله في ظل تعددية سياسية صارعت فيها ببسالة كل القوى الشعبية الطامحة إلي التحرر والعدالة ضد الأعداء القوميين والطبقيين، وحررت نفسها أولا بأول من أوهام الوعي الزائف الذي أجادت ترويجه قوي الاستغلال والقمع حين ربطت بين الحرية الاجتماعية وحرية السوق والتجارة دون أي ضوابط إنسانية.وأنشأت هذه النظم مؤسسات إعلام قوية استطاعت في ظل التعددية أن تنافس الإعلام البارع والمزيف للبورجوازية لتخط هذه الشعوب مجددا ملحمة من ملاحم كفاحها الممتد عبر القرون من أجل الانعتاق من كل أشكال العبودية والاستغلال وأملا في بناء عالم جديد ترفرف عليه رايات الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. وحولت هذه التجارب جنوب الحدود قارة أمريكا اللاتينية من حديقة خلفية للولايات المتحدة الأمريكية كما وصفتها الأدبيات الاستعمارية إلى منارة للحرية والتقدم تضيء للعالم كله الطريق إلي الحرية الحقة.
ملحمة الانعتاق
نشر في: 4 مايو, 2010: 04:08 م