د. فاضل خليلحين تتناول الفنان في فالولي- الإبن ، فأنك تختصر الكثير من المسافات ، والكثير من المعاني ، لأن صفات الأولياء تسهل عليك عناء البحث عن معان سامية . لكن عليك أولا أن تحدد تلك الصفات في الأب ، وهل تصلح لكل الآباء ؟ إذا ما اتفقنا على أن ليس كل الآباء بنفس الصفات :
لأن منهم من يمتلك الحرص والنصيحة ، ومنهم من لا يمتلك من الأبوة غير الحصافة ، وربما الحكمة مسبوغة بالتوجيه . وليس أسهل منها جميعا في صفات الآباء ، شرط أن تكون خالية من البخل ولا اقصد به بخل المال فقط - الذي يفسد الأبوة . ولك أن تطبق بعدها ما تريد وستجدها بكل بساطة مجتمعة في جعفر السعدي ومشروطة بخلوها من البخل بأنواعه ؟؟ ولصعوبة الخوض فيها جميعا . أراني مضطرا لاختيار صفتين فيه تفرد بهما هما صفتا : الحرص ، وعدم البخل على الأبناء . فلا أحرص منه على أبنائه سواء كانوا طلابه أو المتعاملين معه ، وان لم اك يوما ما نرجسيا إلا أني سأبدأ من واحدة من حكاياته معي : يوما اختارني بطلا لمسرحيته فعرس الدمف للوركا . كان بيته يبعد عن مسرح التمارين في أكاديمية الفنون الجميلة خمسين مترا لا أكثر ، ولأنه لم يكن يستغني عن القيلولة كان يجدول دروسه في الساعات الأولي من الصباح كي يكون في البيت بعدها مباشرة ليتناول طعام الغداء على عجل فيأخذ القيلولة التي يعشق ، لينام ثم ينهض نشطا بعدها ليأتي الى التمرين في الثالثة ظهرا وبقية خلق الله من الطلبة الممثلين يئنون من التعب . ولك أن تتصور تمرينا في ظهر العراق الذي تبلغ فيه درجة الحرارة خمسين مئوية في الظل . وفي قاعة لم يعرف التكييف العادي طريقه إليها ، وأنت فيها ممثل لاتملك بيتا وطعامك محسوب بالغرامات ، وعليك أن تؤدي تمرينا يرضى عنه الجميع ، لاسيما وأنت فالمقصود أناف فتحب النوم كما يحبه السعدي فالقيلولة ظهرا بعد وجبة غداء معقولة . وهي في حكم المستحيل هنا في بغداد بعيدا عن اهلك ومنزلك ، فالدوام رسميا ينتهي في الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر كل يوم ، والتمرين في الثالثة ، أي انك تمتلك نصف ساعة لكل مستلزمات المواطنة والمطاولة في ماراثون مضن لتكون بعدها جاهزا للتمرين مع السعدي في (فعرس الدمف) . بمعنى أدق انك لاتملك الوقت للراحة أو الاسترخاء ، كي تكون مستعدا حقا لتمرين مثالي . تأخرت يوما عن التمرين مع السعدي خمس دقائق وفي رواية للسعدي أنها ربع ساعة بعد حملة تعنيف فيها قسوة الأب ، زعل علي وقاطعني دون أن يكلمني عاما ونصف العام ، لكنه ظل معي علي نفس المحبة ، وهي ميزة الآباء الحريصين على تربية أبنائهم . بعد ما يقرب من الأربعين عاما التقيت متحدثا عن تجربته في برنامج تلفزيوني ضيقه على الفضائية الشرقية ، ذكرته بما مضى وقلت له :- عندما اخترتني بطلا لمسرحيتك "عرس الدم" و تأخرت عن التمرين خمس دقائق ، زعلت أنت علي وقاطعتني أكثر من عام ونصف العام ، ثم استبدلتني بممثل آخر ، ماذا قصدت من ذلك ؟ أجابني بكل صدق الأب الحريص علي ولده الذي ربما إذا سامحه عن خطأ قد يكرر الخطأ ثانية بآخر : - لأنك ابني وأنا احبك لزاما علي أن أعلمك الصحيح ، إلا أني ورغم زعلي عليك استمر اعتزازي بك ، كنت احبك ، بل أحببت كل من درستهم ، فكلهم أولادي أقولها بكل صراحة . وهنا ولست مستغربا من بساطة إجابته لأني أدري بالسعدي ، لكني هتفت فرحا لأني كنت قد تأكدت من تشخيصي له الذي أكد عندي فيه الأستاذ - الأب :- إن عمقك في البساطة التي تتمتع بها أيها الجليل الجميل، وأنت هكذا دائما أستاذي وأبي .واعتقادا منه أني بتذكيري له بمثل هذه الأحداث ، ربما أكون حاملا عليه فغيظا مستحيلاف فاسترسل قائلا :- الشيء المهم الذي افتخر به هو أنكم أولادي .ولجلج بضحكة هادرة تميز بها صوته القوي ، وهي دالته النبيلة التي تقع فيه ما بين طفولته وامتدادها ، وبين طيبته المتناهية التي لا تشبهها طيبة . وكان هذا رهاننا عليه دائما ، ثم أكمل:- وهو المطلوب .واستمر بذات الضحكة التي لم تفارقه ، حتي أنه مات وهو يضحك ؟؟!! وقد يكون مات من الضحك . ربما ... لا بل من المؤكد انه مات من الضحك .إذن هو أمر غاية في البداهة أن يتصرف فالأب ، المخرج ، الأستاذ حين يعنف فابنا ، ممثلا ، طالب مثلي بالطريقة التي تصرف بها السعدي معي : يوم استبدلني بآخر عقابا لي لتأخري عن التمرين ، وما همه فيما ستؤول إليه نتائج العمل المسرحي ، ولا إلي ما سيؤول إليه العرض بالنهاية . كما لم يأبه إلى من سيكون هذا البديل ، أهو اقل مني كفاءة وموهبة ، أم لا ؟؟ كل ذلك لكي ينتصر : للالتزام ، للأخلاق المسرحية أولا ، وللتربوي في الأستاذية ثانيا . كان هذا في مسرحية في فعرس الدمف لغارسيا لوركا . لم ينضبط عمله فيها أو يتمحور في اتجاه ولم يمل إلي نزعة "(1) هذا ماراه فعبيدو باشاف - الذي أخالفه الرأي - في كوني انطلق من إن السعدي يكاد يكون من القلة التي تمتلك صواب الرأي فأستاذا أكاديميا - كما وصفه الباشا . مضافا أن السعدي لم يأت من فراغ حين تعامل مع الحسي بعيدا عن المجاهرة ، وما همه في ذلك رأي الكثيرين ممن يتهمونه بالشكلاني الذي لاتهمه الجوانب الإبداعية في التعامل مع الجمال . بل هناك من يعتبره يفرط بالإبداعي والفني على حساب التربوي الت
جعفر السعدي ((أب)) المسرح العراقي
نشر في: 5 مايو, 2010: 05:32 م