TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > محمد عابد الجابري:العودة الى رحم الأم... مستحيلة

محمد عابد الجابري:العودة الى رحم الأم... مستحيلة

نشر في: 7 مايو, 2010: 04:35 م

افتتح المفكر الراحل محمد عابد الجابري بهذا النص اللافت، سيرته (حفريات في الذاكرة( التي صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 1997.كتاب السيرة الذي اعتبر على نطاق واسع، واحدا من أجمل الاعمال في بابه، قدم وجها مختلفا للمفكر المتعمق في تاريخ التراث العربي، والمعروف بصرامته النقدية.
ولعل الجابري في مفتتحه هذا، يظهر كواحد من أكثر المفكرين العرب جرأة، في الحديث عن طفولته، او أقدم ما تختزنه ذاكرته عن الطفولة، لصورة (الأم) وما امتنع عليه رؤيته من (أجزاء جسدها).كان الجابري منشغلا بكتابة تاريخ للحقيقة والفكر والعقل، وانهمك في دراسة العوامل التي تتولى تشكيل الفكر العربي الإسلامي، دارسا تدخلات السلطة في المعرفة. وهذا ما صنعه مع مهمة التأريخ لنفسه وذاكرته الشخصية. فقد سجل أول لقاء له مع (التابو) او مفهوم المنع، حين أبعدته أمه عن ساقيها العاريتين.كان ميشيل فوكو الذي مثل مرجعية أساسية للجابري، يقول ان (تحت ما يعرفه العلم عن نفسه، يرقد شيء لا يعرفه(، وبما يشبه استيحاء لهذه القاعدة، يسجل الجابري كيف أدرك بعد حادثة بيته القديم، حين أصبح (مفكرا)، ان (العودة الى رحم الأم هي أولى المستحيلات)، وكأنه ينص أيضاً على ان الحقيقة التي تخرج من (رحم) تاريخ معقد، يستحيل عليها العودة إلى المصدر.. الذي سيظل (المجهول الأكبر)، وفي ما يلي القصة الأولى في سيرة الجابري المذكورة (ص 11 - 14):يحتفظ الناس عادة، في أذهانهم ووجدانهم، بذكريات عن طفولتهم الأولى، ولكنهم في الغالب لا يستطيعون ترتيبها ترتيباً زمنياً، فذكريات الطفولة تمثل في الذهن والوجدان، عند استدعائها، متزامنة متزاحمة، وكأنها (حاضر) سابق لكل زمان، ومع ذلك فإن صاحبنا يستطيع أن يجزم مع نفسه بأن ذكريات طفولته الأولى تؤسسها جملة وقائع على غيرها، على صعيد الذكرى، وهو يعتقد أنه لن يرتكب خطأ إذا هو رتبها زمنياً كما يلي:اما الواقعة الأولى فقد جرت عندما كان ما يزال رضيعاً يحبو: كانت أمه جالسة تغزل على شمس ضحى يوم من الأيام التي لم يكن يعرف بعد كيف يصنفها أو يسميها. كانت لابسة، كعادة نساء مدينة فجيج يومئذ، إزاراً رقيقاً من الصوف يسمى (الحايك)، يشد إلى صدر المرأة بعقدتين فوق ثدييها. ولم تكن النساء – نساء بلدته على الأقل – يلبسن آنذاك سروالاً ولا ما يقوم بوظيفة السروال. كانت المرأة تضطر دوماً إلى جمع رجليها في اتجاهين متقابلين عندما تجلس، ومعها غيرها، ستراً للمناطق الداخلية من جسمها. ولكن جمع الرجلين بهذا الشكل لا يتأتى عندما تكون المرأة بصدد غزل الصوف: فالغزل، كما كانت تمارسه آنذاك نساء بلدته، عملية تتطلب وضعاً جسمانياً خاصاً: تجلس المرأة ورجلها اليسرى مثنية على الأرض في اتجاه اليمنى أفقياً، أما اليمنى فتنتصب إلى أعلى حتى الركبة لتنزل على الأرض مشكلة زاوية منفرجة قليلاً. هذا الوضع الجسماني الخاص والحركة التي تقتضيها عملية الغزل يجعلان رجلي المرأة عرضة للعري فتحدث فجوة ما بين اليسرى الممتدة على الأرض واليمنى المنتصبة على شكل زاوية كما قلنا. فإذا كانت المرأة الغازلة لوحدها أو مع أبنائها الصغار تعاملت مع هذه الفجوة بنوع من عدم الاكتراث، أما عندما يكون معها غيرها من أفراد اسرتها أو من نساء الحي فإنها تحشو الفراغ المذكور بما يفضل من حاشية إزارها التي تغطي رجلها اليسرى، بينما تلف الحاشية الأخرى على الرجل اليمنى حتى الركبة، أو قريباً منها، بحيث لا يبقى منها عارياً سوى الساق التي يتحرك عليها المغزل.يتذكر صاحبنا بكل وضوح هذا الوضع الجسماني الذي كانت عليه أمه وهي تغزل حينما اتجه برأسه، وهو يحبو، نحو تلك المنطقة الوحيدة من جسم أمه التي لم تكن في متناوله، والتي كانت تشكل بالنسبة له المجهول الأكبر. والأطفال مولعون دوماً بالكشف عن الأسرار وارتياد المناطق الممنوعة، لم يشعر إلا ويد أمه تدفعه بعيداً عنها دفعة قوية عنيفة قضت على فضوله، وجعلته يحس بما يمكن أن يفسره اليوم بنوع من الندم، شبيه بذلك الذي يحس به من ارتكب خطأ واعترف به أمام نفسه. عاد يحبو جانباً من دون ان يبكي أو يحتج، أو على الأقل لا يتذكر أنه صدر عنه شيء من ذلك. ولكنه بالمقابل يتذكر بكل وضوح أنه انتابه شعور غريب تماماً، شعور يمكن أن يفسره اليوم بكونه علامة على أنه كان قد أدرك لأول مرة، من خلال دفع أمه إياه تلك الدفعة العنيفة، أن أمه شيء وأنه هو شيء آخر. ولو كان يفكر آنذاك بعقله الذي يفكر به اليوم لقال في ذات نفسه: إن الولادة عملية غير قابلة للإنعكاس، والعودة الى الرحم هي أولى المستحيلات.إن صاحبنا لواثق من صدق هذه الذكرى التي ترجع فعلاً إلى سن مبكرة، مستندة في ذلك أنه كان يسترجعها، أو على الأصح، كانت تعود تلقائياً لتفرض نفسها من جديد في ذاكرته الحية، كلما شاهد أمه في مثل ذلك الوضع الجسماني وهي بصدد الغزل، فيحني رأسه وينصرف أو يتشاغل بشيء آخر، وكأنه يحاول نسيان ذلك المشهد. وذكريات الطفولة تخلد في الذاكرة بالتكرار، وبالتكرار يتم (الحفظ)، وقديماً قالوا: (الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر).إن أهمية هذه الحادثة، التي يتذكرها صاحبنا وكأنها وقعت قريباً جداً من (الحاضر)، ترجع الى أنها كانت – في تقديره اليوم – تشكل بالن

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram