TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > الجابري: رحلة فكرية بين صنوف المعرفة

الجابري: رحلة فكرية بين صنوف المعرفة

نشر في: 7 مايو, 2010: 04:40 م

 د. رسول محمد رسول يُعد  محمد عابد الجابري من بين المفكرين العرب ذوي المشاريع النظرية الأكثر لفتاً للانتباه واجتذاباً للنقاش والجدل في اللحظة الراهنة.وإذا ما أردنا جمع هذه المشاريع حول سؤال مشترك، يمكن القول إن الهاجس الغالب عليها هو التفكير في سؤال النهضة؛
مع اختلاف في كيفيات طرق السؤال والإجابة عنه، بسبب تعدد واختلاف المداخل المنهجية التي توسل بها أصحاب تلك المشاريع.أما المدخل المنهجي الذي اختاره الأستاذ الجابري فلم يكن مدخلا سياسيا ولا اقتصاديا بل أبستملوجيا، إذ يرى أنه لا نهضة من دون تحصيل آلة إنتاجها أي العقل الناهض.ولا يمكن تحصيل هذا الفكر القادر على صناعة النهضة من دون نقد للعقل العربي وبحث صيرورته التاريخية وتحديد المفاهيم المتحكمة في بنيته، من أجل بيان الحاجة إلى عصر تدوين جديد يؤسس للعقل نظاما معرفيا قادرا على الاستجابة لتحديات الواقع الراهن.هذا المطلب هو الذي اشتغل الأستاذ الجابري بقصد إنجازه طوال ما يقرب من نصف قرن متوجاً ذلك بإنتاج موسوعته (نقد العقل العربي) وهو الإنجاز الذي رأت اليونسكو أنه يستحق أن يُكرم في الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2006.وقد كان الحفل تكريما لرمزين فكريين كان لهما إسهام مقدر في البحث الفلسفي، إذ إضافة إلى الجابري تم الاحتفاء أيضا بالفيلسوفة الألمانية حنا أرندت (1906-1975) لمناسبة الذكرى المئوية لميلادها.فما  لحظات مسار تطور فكر الجابري الذي تُوج بهذا التكريم؟ وما الإشكالات المعرفية التي طرحها ويطرحها مشروعه الفكري؟ في مقاربتي لهذا المسار الفكري لا أستهدف تقييمه نقديا، وإنما هو تقديم وصفي للحظات تطوره، مستحضرا محطات من السيرة الذاتية لصاحبه مع الوقوف عند اللحظات الخاصة بتأسيس مشروعه المعرفي.الرموز الحسابية الهندية كانت هي السبب في أن يولد الفيلسوف الجابري، فلولا تلك الرموز لاختار الطالب محمد عابد الجابري تخصص الرياضيات لا الفلسفة، وبذلك كنا بلا شك سنخسر مفكرا من الرياضيات إلى الفلسفة.كثيرا ما تلعب أقدار، تبدو صدفا في مسار حياة الناس، دورا رئيسا في تشكيل مستقبلهم، وبالرجوع إلى حياة الجابري يستوقفنا حادث كان هو المنعطف نحو توجهه إلى التخصص في الدراسات الفلسفية، لأن الرجل كان في ميوله الدراسية عاشقا للرياضيات.وعندما تحدث الجابري في كتابه (مسار كاتب) عن علاقته بهذا العلم الدقيق وصف ميله إليه وتميزه فيه بلغة لا تخلو من جيشان العاطفة "كنت مولعا بالرياضيات.. كان لدي ما يشبه الموهبة في هذه المادة" ففي المدرسة الابتدائية وكذلك في السنتين اللتين قضيتهما في المدرسة الثانوية (والكلام للجابري) كان الأستاذ يملي علينا في نهاية الدرس تمارين الحساب والهندسة ثم الجبر كواجبات منزلية، وكثيرا ما كنت أكتفي بالاستماع إليه وكتابة المعطيات الرقمية بدل كتابة نصوص التمارين بأكملها، حتى إذا انتهى من الإملاء كنت قد هيأت الجواب! وفي المنزل كنت أشتغل على تمارين مماثلة في الكتب الفرنسية! وكانت تستغرق جل أوقات الفراغ عندي". بهذا العشق لعلم الخوارزمي سافر الجابري إلى سوريا سنة 1957 ليتم دراسته في تخصص الرياضيات، وقد كان عمره آنذاك واحدا وعشرين عاما، بيد أن أمرا طريفا كان سيرغمه على تبديل اختياره التعليمي، فقبل أن يسجل نفسه في كلية العلوم أخذ الكتب المدرسية السورية لاستطلاعها والمقارنة بينها وبين ما تعلمه في المغرب.وعندها فوجئ الطالب المغربي بما لم يكن قد تهيأ له، حيث يصف الجابري ما حدث قائلا: "كانت صدمة كبيرة لي عندما وجدتني أمام (مشاهد) لم أكن قد تعودت عليها: أرقام هندية لا أستطيع قراءتها بسهولة، وأنا قد تعودت في المغرب على الأرقام العربية، العالمية الآن، وكانت مراجعي في مادة الرياضيات والفيزياء كلها مراجع فرنسية " وأضاف الجابري: لقد وجدت نفسي في كتب الجامعة السورية في دمشق أمام أرقام ورموز ومعادلات ومصطلحات غريبة عني أو أنا غريب عنها، والرياضيات كلها رموز.. ويقول المفكر المغربي: شعرت أنه سيكون علي أن أقوم بدور المترجم لنفسي من العربية إلى الفرنسية ومنها إلى اصطلاحنا في المغرب.. فكان هذا شيئا مثبطا تماما.وقرر الجابري ترك الرياضيات والتخصصات العلمية على حد سواء، والارتحال هاربا من استغلاق الرموز العلمية التي تحفل بها كتب الرياضيات والفيزياء... إلى حقل معرفي آخر، هو القانون، ولكنه بعد أن راجع كتب القانون لاحظ أنها تعتمد بالدرجة الأساس على الحفظ والذاكرة.وقرر الطالب التغيير مرة أخرى، فسجل نفسه في كلية الآداب بالسنة الأولى في تخصص كان يسمى (الثقافة العامة) على أن يختار بالسنة الثانية شعبة الفلسفة، ودرس الجابري السنة الأولى في دمشق، ونجح بتفوق، فكان ترتيبه السادس من بين ما ينيف على خمسمائة طالب.وفي نهاية العام عاد الجابري إلى المغرب ليجد أن كلية الآداب في الرباط استحدثت شعبة الفلسفة، فقرر العدول عن السفر إلى دمشق، ومتابعة دراسته في الرباط.وهكذا يمكن أن نقول إن الرموز الحسابية الهندية كانت هي السبب في أن يولد الفيلسوف الجابري، فلولا تلك الرموز لاختار الطالب محمد عابد الجابري تخصص الرياضيات لا الفلسفة، وبذلك كنا بلا ش

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram