TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > تلويحة المدى: المنمنمة والنص

تلويحة المدى: المنمنمة والنص

نشر في: 7 مايو, 2010: 06:05 م

شاكر لعيبيالفرضية السائدة بين أوساط المعنيين بالفن الإسلامي تذهب إلى القول إن مُصورِّي المنمنمات ليسوا نُسّاخ المخطوطات التي توجد بها تلك المنمنمات، إلا إذا وُجد دليلٌ قاطع على ذلك، كأن يشير الواسطيّ مثلاً في نسخته من (مقامات الحريري): "فرغ من نسْخها العبدُ الفقير إلى رحمة ربه وغفرانه وعفوه يحيى بن محمد بن أبى الحسن بن كوريها الواسطي بخطه وصوَّره آخر نهار يوم السبت سادس شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وستمائة".
 والكتاب محفوظ في المكتبة الوطنية بباريس تحت رقم 5847 - عربي، وفيه إشارة لا تقبل النقاش بأنه قد (خطّهُ وصوَّره).الفرضية السائدة تجعل من غالبية المنمنمات العربية الإسلامية، المبكّرة خاصة، مجهولة الرسّامين، وتتعرّف فقط على ناسخي المخطوطات المصوّرة الذين يشيرون إلى أسمائهم في نهاياتها غالباَ. يحتاج الأمر لتدقيقٍ جديد لسببين على الأقل:الأول: ضرورة إقامة مقاربة جمالية وأسلوبية بين طبيعة (الخطوط العربية) المنسوخة بها المخطوطات المذكورة وطبيعة (الرسوم والتصاوير)، والسعي لإيجاد علاقة داخلية بينها. عدا ذلك فإن هناك نسياناً، لا يُغتفر بالنسبة لمؤرخٍ فنيّ، بأن فن الخط العربيّ – ومِثله الصينيّ- هو رَسْمٌ في المقام الأول وقبل كل شيء، لأنه يقوم على الخط الخارجيّ. إن الالتباس الظاهريّ الواقع في اللغة العربية بين معنى الخط بصفته فنا "للكاليغرافي" والخط بمعناه الهندسيّ والتشكيليّ، دالّ هنا، لأنه يشير إلى هذا التعالق بين (الكاليغرافي) والرسم بالخطوط الخارجية.الثاني: ضرورة الانتباه إلى الحقيقة التاريخية المُبَرْهَن عليها في أكثر من واقعة، هي أن الكثير من الخطاطين المشهورين في تاريخ الخط العربي كانوا من الرسّامين أيضاً، حتى لو لم تصِلْ إلينا أعمالهم التصويرية. تجري الإشارة في المراجع العربية التراثية إلى الكثير من الخطاطين على أنهم من كبار (المزوِّقين)، والمفردة تنتوي الإشارة إلى قدرات مُعترَف بها في مجال التصوير والرسم والتلوين. بل أن الإشارات المبكرة من الصراحة بمكان بشأن الخطاط ابن البوّاب الذي "عمل في بداية حياته مزوقاً للبيوت، ثم عمل بزخرفة وتصوير الكتب".الإشارات الكثيرة الأخرى لغير ابن البواب ثمينة، وتندرج في سياق ممارسات الخطاطين بوصفهم من المزوقين أو المصوّرين، وقد استقصيناها في مكان آخر  بشكل موسّع.في قراءة العلاقة بين المنمنمة والنص، يبدو واجباً الانتباه للأمرين أعلاه في لحظة اشتغالهما المُتزامِن جنباً إلى جنبٍ غالباً.الأول يستدعي قراءة جماليةٍ، والثاني تتبعاً تاريخياً يقرأ الصريح كما المخفيّ بين السطور عن سِيَرِ الخطاطين المعروفة على نطاق واسع، أو سِيَرِ الرسّامين الغامضة.لنقترح الآن الفرضية التالية: إمكانية أن يكون بعض ناسخي الكتب المصوَّرة هم رسّاموها.لو كان صحيحاً بأن ناسخيْ المخطوطات المصوَّرة "المتأخرة" ليسوا من رسّاميها بالفعل، فهل نستطيع القول بأن الحال نفسه كان واقعاً فيما بين القرنين العاشر والثالث عشر الميلاديين؟. إن تقاليد المخطوطات الإسلامية تستلزم أن يضع الناسخ اسمه في نهاية المخطوطة مع عبارة شائعة تقول بأن النسخة المعنية قد نُسختْ على يد العبد الفقير لرحمة ربه..إلخ بتاريخ كذا، وأحيانا في المكان الفلاني. إن الناسخين والكتبة قد عُوملوا كما يذكر أوليغ غرابر على أنهم فنانين حقيقيين: "لأن أعمالهم كانت تُشترى من قبل الأغنياء ويُحتفظ بها بدرجات متفاوتة في ألبومات كانت تصير بشكل إجباري ملكيات في جميع البلاطات".تَطلَّبَ تداخُلُ الحرف الفنية الذي تبرهن عليه، بجلاءٍ تام، أعمال (الخطاطين- رسّامي الكتب) مثل الواسطي وابن البواب خلْطَ نوعين أو أكثر من الأنواع الفنية من دون إعارة اهتمام (للاختصاص) الصارم. كان التخصّص صارماً بالفعل في وقت متأخر من تطوّر الفن الإسلاميّ فحسب، كما في العصر المغوليّ، ولكنه تطلب وقتاً طويلاً كانت أثناءه سيطرة الفنانين على أكثر من مهارة هي القاعدة الذهبية. كان التقليد الثقافي لسوء الحظ يودّ أن يختط الناسخون أسماءهم فقط بشكل مُلحّ على المخطوطات المصورة.إن تحليل الأسلوب الفنيّ وسمات الخطوط (في الكتابات المجاورة للصورة) والأحبار والتلوين وغير ذلك يسمح بالوقوف على كون العمل من نتاج فنان واحد أو عدة فنانين. تستطيع بعض المخطوطات، عبر تقاطع الصورة مع النص بل اندغامهما، تحديد أن تصاوير بعض الكتب من فعل النًسّاخ أنفسهم في أحيانٍ ليست نادرة. فإن نسخة من مخطوطة "مقامات الحريري" مصوَّرة في النصف الأول من القرن الثالث عشر (المكتبة الوطنية في باريس، رقم 3929 عربي) قد تمنحنا البراهين على هذه الفرضية: غياب (التأطير) الذي يقيم حدودَ التصاوير على الصفحة يمكن أن يكون دليلاً أولياً معقولاً. إن وظيفة التأطير في المنمنمات الأكثر قِدَماً لا تبدو محض إشارة عفوية، فعدا عن دور الإطار بصفته عازلاً ضرورياً للإدراك البصري، فهو نوع من تخوم مغلقة تستهدف فصْل التصوير عن البيئة غير التصويرية حوله. إنه نظرياً يقيم الحدود إذنْ، مهما كانت هشاشتها، بين نشاط الرسّام ونشاط الخطاط.لو قلبنا الفكرة فإننا نستطيع الافتراض بأن غياباً للإطار يعني بأن الفنان كان يعمل هو بنفسه، في آن واحد، على الكتابة وعلى التصوير من دون أن يكون مجبراً على تقسيم فضاء الصفحة بأجزاء منفصلة

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram