لطفية الدليمياحتلت ثقافة الدخان في عالمنا المعاصر بؤرة مركزية في مشهدية الفن والحياة اليومية، الأفلام السينمائية منذ السينما الصامتة حتى نطقت، اعتمدت التدخين وسيلة تعبيرية عن حالات عاطفية ونفسية متباينة: الشغف والعشق والحزن والتوتر والإحباط والشوق والتخطيط للجريمة،
حالات تترافق مع دوائر وغمائم دخانية، وشعلات متوهجة من قداحات وعيدان كبريت تثقل المشهد بإيحاءاتها المباشرة. وفي ثقافة الدخان ورمزية التدخين رافقت السيجارة أوضاع الغواية والإغراء والتهتك في الإعلانات والسينما والمسرح والأغاني المصورة.. كما استخدم محترفو التعذيب -في سجون النظم الدموية- الكي بالسجائر كإحدى وسائل القسر الوحشي لإرغام المعتقلين على الاعتراف وإذلالهم.. أرصفة باريس لم تعد تتزين ببتلات الزهور ولا تفوح من محلاتها أشذاء عطور شانيل وايف سان لوران وشاليمار وجيفنشي بل صارت بعد تطبيق قانون حظر التدخين في المقاهي والمطاعم والحانات- مرقشة بعشرات الآلاف من أعقاب السجائر التي يلقيها المدخنون طوال نهارات العمل وليالي اللهو، وصار الدخان شخصية النهار والليل يهب عليك من أفواه المدخنين عند كل خطوة، وطرأت على ثقافة التدخين تغييرات دراماتيكية، غيرت بالتالي من صورة مدينة الفن والمتاحف والأناقة وتحولت مداخل المقاهي والمطاعم والدوائر إلى معارض لأعقاب السجائر التي يلقي بها المدخنون بلا اكتراث نكاية بمرسوم الحظر.. كل تسع ثوان يموت أحد ضحايا التدخين في العالم موتا لذيذا حتى فاق عدد ضحايا التدخين أعداد ضحايا الحروب، حرب الدخان على البشر حرب مغمسة بالشغف ومعززة بالإدمان الشهي وهي تمثل ثقافة عصر كامل متداخلة مع موجات التحديث والتطور الصناعي والاقتصادي ونزعات «السنوب» والمظهرية الاجتماعية ومترافقة مع فهم قاصر للحرية الشخصية التي يختار ممارسها الموت البطيء طوعا واختياراو يسبب الاذى لسواه بالتدخين السلبي الذي لايقل خطرا عن التدخين الحقيقي . السيجارة كانت ولا تزال أولى الممارسات الرمزية التي يلجأ إليها المراهقون لإثبات نضجهم ورجولتهم وكسرهم لتابوات البراءة الطفولية، يدخنونها لتأكيد الانعتاق من سلطة الكبار، حتى غدا مشهد الصغار المدخنين في الشوارع يشكل ثقافة جيل الاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي فجرتها الحروب في أنحاء العالم من كولومبيا حتى العراق وأفغانستان وبلاد الصرب والبوسنة، مؤشر انحسار سلطة الأسرة وتفشي العدمية والنزعة الانتحارية لدى أجيال كاملة..السيجار الهافاني المنتج التجاري الثمين الذي يوفر لكوبا الفقيرة مصدرا أساسيا من العملات الصعبة -تحول إثر التغيرات الثقافية الناتجة عن التغيرات السياسية والاقتصادية إلى رمز للديكتاتورية والثراء الفاحش وترافق ظهوره في الحياة العامة والأفلام مع العنف وصعود المافيات وبروز الساسة الدمويين على المسرح الدولي، مثلما صار رمزا لمحدثي الثراء من تجار المخدرات والسلاح والرقيق البشري.. مرسوم منع التدخين في المقاهي والحانات والمطاعم وأماكن اللهو يطبق بصرامة في فرنسا، بعد أن كان معمولا به في أماكن العمل منذ عامين، وكنا نرى جمهرة الموظفين والعاملين يقفون على أبواب العمارات يمجون دخان سجائرهم ويلقون بأعقابها على الرصيف، أما الآن فقد أمست شوارع المدن الفرنسية الفضاء الوحيد الذي يتحمل عبء الدخان المطرود من فراديس المقاهي الأنيقة.. رفعت منافض السجائر من مقاهي الأرصفة والمطاعم والحانات ووضعت في بعض المقاهي كؤوس تحتفي بزنبقة أو وردة أو احتلت الموائد شموع متوهجة في أقداح بلور.. في أسبانيا رأيت اعدادا هائلة من الأطفال المراهقين صبيانا وبنات يدخنون في الشوارع وقيل لي ان سعر السجائر ارخص في اسبانيا من بقية دول اوروبا وبنفس القدر الذي يدخن فيه الاسبان صغارا وراشدين تجدهم اكثر الاوروبين شغفا بالقراءة في المقاهي والمترو والقطارات ومعظم مدمني القراءة من السيدات باعمار مختلفة وربما يفوق عدد القارئات عدد القراء المدخنين بكثير ..ثقافة الدخان والموت اللذيذ بالتبغ تواجه الآن تحديات حقيقية من الدول التي تتكبد مبالغ طائلة لعلاج الأمراض السرطانية، وتواجه مصانع التبغ إجراءات شديدة تبدأ بمنع الترويج الإعلاني للسجائر وحظر صور المدخنين في وسائل الإعلام ووضع عبارات قاسية ومخيفة على علب السجائر وزيادة أسعارها بوتيرة متصاعدة.. ترى هل بدأ عصر الهواء النظيف على كوكبنا المبتلى أم أن سادة المال والاستثمار والحروب والمافيا ومفجري السيارات المفخخة ومشعلي الحرائق سيبتكرون لنا أنواعا من الدخان القاتل لسلبنا ما تبقى من أنفاس الحياة؟
قناديل :ثقافة الموت اللذيذ ورمزية التدخين
نشر في: 8 مايو, 2010: 05:17 م