قحطان الملاكاي زمن من ازمنة بغداد الخالدة تريدني ان احدثك عنه؟ والحديث عن بغداد يطول.. وان اردت ان تعرف وتقرأ عن تاريخ بغداد فأقرأ ما خطه الخطيب البغدادي عن تاريخ بغداد في مجلداته الضخمة المعروفة.. من اين استقي المعلومة والوحي والالهام ، وبغداد ولياليها كلها الهام ووحي... انك قد عشت يابني الاربعينات والخمسينات، وها انت لا تزال تعيش بغداد وايامها...
تتذكر دور السينما، وانا اتذكر المسارح ودور اللهو والمقاهي... تتذكر انت شارع الرشيد، وانا كنت في ذاك الزمان اتكىء على عصاي واجلس في مكتبة مكنزي ابحث عن الجديد من الكتب الواردة من الغرب والصحف الاجنبية.. انت تذهب الى مدرستك الغربية المتوسطة.. وانا اجلس في السويس كافيه (المقهى السويسري) ، حيث كانت ملتقى الادباء والفنانين النخبة ، جواد سليم، فائق حسن، عبدالملك نوري، سعيد علي مظلوم، حسين مردان.. كل من تريد ان تتذكره من ذلك الجيل المتميز الذي كان اللبنة الحقيقية للثقافة العراقية في ذلك المقهى، حيث كنا نجلس ونحتسي القهوة مع الحليب او البيرة المثلجة او دوندرمة كاساته، وتتردد عليه في نفس الوقت سيدات محترمات مثقفات من كل الاعمار وعلى جانب ذلك وضع كراموفون كهربائي ومعه اسطوانات لباخ وبراهمز وشايكوفسكي وغيرهم ، ومن يريد ان يسمعها ،يضع اسطوانته المفضلة ، وبهدوء يجلس ويسمع، فهل يمكن لك ان تتصور ، يا ولدي، مقهى بهذه الشاعرية ، كأنك تجلس في احد مقاهي باريس...!!وكانت هناك الى جانب سويس كافيه، القهوة البرازيلية ، وهي الملتقى لجمهور اكبر من النخبة التي كانت تزهو في بغداد، وتزهو في مجال الادب والعلم، وحيث كانت السيدة ناهدة الحريري مديرة دار الفنون ورئيسة جماعة بغداد، والشابة المحامية الاولى صبيحة الشيخ داود اسما فريدا خرج من اركان كلية الحقوق ليكون اول اسم لمحامية في العراق... وحيث كانت السيدة خالدة الرحال اول رئيسة تحرير لمجلة عراقية منذ العشرينات، وان كان للثورة معنى في نفوس اهل بغداد والعراقيين ، فأنها كانت ثورة العشرين التي الهبت النفوس ضد المستعمرين الانكليز... وان اردت ياولدي ان تعرف اكثر ، فأقرأ ما كتبه الزيات عن ايام بغداد في الثلاثينات..نعم! ياسيدي اتذكر الكثير من ذلك... اتذكر الباب الشرقي حيث كانت تنتصب سينما غازي بفخامتها مقتحمة الفضاء الكبير امامها ، وحيث كانت حديقة الامة متنزها يؤمه الناس ليستمتعوا بزهوره ورياحينه، وحيث كانت سينما النجوم ، منتصبة في مواجهة سينما غازي لتعلن ولادة جديدة لدار سينما تعود الى رجل اقتحم المدينة في عز شبابها ليكون من اوائل السينمائيين العراقيين ذلك القادم من البصرة هو حبيب الملاك... الرجل الذي كانت تزخر القاهرة وصحفها بالكتابة عنه وعن اسهاماته في السينما العراقية والعربية ، وحيث كانت هناك سينمات تاج وديانا ودار السلام وهي سبع او ثماني دور سينما تملأ الساحة والشارع وباب الشرقي كانت الليالي تعج بالناس ، والناس تملأ الشوارع ، والدور الثاني في السينما كان دورا خاصا يؤمه المثقفون والعائلات... نعم! ياسيدي... كنا نخرج بعد انتهاء هذا الدور في الساعة الثانية عشرة والنصف ونعود الى دورنا سيرا على الاقدام ، ولا نصلها الا بعد الساعة الواحدة... وكانت في ليالي الصيف الحفلات الشهرية لسيدة الطرب ام كلثوم، حيث كان الناس في كل ارجاء الوطن العربي ينتظرون تلك الليلة المشهورة، وحيث يجتمع ويتلاقى العرب جميعا على اكسير الغناء وذلك الصوت الرخيم وعود القصبجي وكلمــات رامــي وغـيره مــن الشعـــراء.كنا نجلس في الحدائق وعلى سطوح الدور حيث كنا ننام في الصيف.. ننتظر بدء الحفلة في المذياع... وفي اليوم الثاني كنت تسمع ذاك الصوت في الحيدرخانة يخرج من ذلك المحل للتسجيلات محلات جقماقجي، وكان يرحمه الله عبدالله يتمشى في باب المحل يسبح بمسبحته ناسيا نفسه وهو يطرب في النهار بعد الليل لذلك الصوت الرخيم... نعم! يا ولدي انه شعب طروب حي.. الى اين تريد ان تقودني...؟ يفيض الفكر وهو يتذكر الايام والليالي الخوالي، حيث يتذكر صوت سليمة باشا، وهي تنعى بصوتها الجميل القوي الحزين ملك العراق فيصل الاول عند وفاته باسطوانة واغنية نادرة مازلت احتفظ بها الى الان rn
ذكريات خاطـفة عن بغـداد
نشر في: 9 مايو, 2010: 04:33 م