فؤاد التكرليلك يا منازل في القلوب منازلأقفرت انت وهن منك أواهل(المتنبي)عشت في طفولتي وشبابي في منازل بغدادية عديدة، يحمل لي كل واحد منها ذكرى خاصة مرتبطة به.أول تلك المنازل بيتنا القديم في محلة "باب الشيخ"
حيث ولدت، وهوالملاصق "للديوخانة" الكيلانية ولبيت النقيب؛ وكان مسكنا، في الماضي المندثر، لنقيب أشراف بغداد الذي كان هوجدي الكبير محمد سعيد. إنه بيت كنت أراه واسعا جدا وذا اسرار غامضة لا تنتهي. فاذا بدأنا من السرداب العميق، لوجدنا أنه موقع تحوطه الغرابة من كل جانب. أول ما ننزل الدرجات الحجرية الصلدة العشر، يلفت نظرنا علي اليمين ممر مظلم مغلوقة نهايته بشبكة خشبية مرفوعة علي دكة مبنية بالحجارة والطين.كانت تلك الزاوية المعتمة ممرا ومجرى دائما لنسمات من الهواء البارد لا ينقطع؛ وكنا بسبب هذا التيار الهوائي نضع أيام الصيف "التنكة" المليئة بالماء ساعة وبعض الساعة امام الشباك لنجد ماءها وقد برد برودة محببة. كنت أقف احيانا امام ذلك الشباك العتيد، مستثار الفضول، اتطلع الى الظلمة وراءه واتسمع الى اصداء لأصوات اشخاص يتكلمون في الجانب الآخر من السرداب. قيل لي بعد حين ما كان واضحا لي وهوانه كان سردابا ممتدا متصل الأقسام، فصلته نزاعات العائلة الواحدة. كان قسمنا من السرداب يتكون من مساحات أربع تفصل فيما بينها أعمدة ضخمة من الحجارة والطين تتحمل ثقل البيت فوقها. في مواجهة مدخل السرداب،! تنفتح فوهة سوداء تتصل بغرفة واطئة علي جهة من الحوش سميت "الرهرب" اعتاد أبي علي النوم فيها بعد الظهر أيام الصيف الحارة. هذه الفوهة المظلمة المهجورة، كانت في الحقيقة ومنذ زمن بعيد، تحتوي علي نهاية الساقية التي توصل الينا الماء بصورة خاصة. ذلك ان الماء الآتي من نهر دجلة، كان يوزع بسواقي بشكل خاص علي بيوت آل النقيب؛ في حين يتم توزيعه علي عموم الناس بعد تجميعه في المحلة المسماة "رأس الساقية".تحت الفوهة، التي كنت أخاف من الاقتراب منها، كانت تصطف صناديق عديدة سوداء قيل إنها مصنوعة في الهند؛ وكان ممنوعا علينا ان نفتحها؛ ولكني بما كنت أملك من فضول وتمرد وعدم اكتراث بالأوامر، بادرت احد الأيام برفع الأغطية الثقيلة عنها والانكباب على رؤية ما داخلها. لم تكن هنالك أسرار اوما أشبه، بل أكوام من مجلة "المصور" المصرية تعود الى سنوات العشرين وأعداد من مجلة "الستراسيون" الفرنسية ونسخ عديدة من ترجمة عربية لرواية "سرفانتس".. "دون كيشوت". لم أكن اعرف القراءة آنذاك، ولكن صور "سعد زغلول" و"أحمد ماهر" و"النقراشي" و"النحاس باشا" وغيرهم رسخت في ذهني من كثرة رؤيتي لهم في المصور.أما "دون كيشوت" فقد كانت من ترجمة ابن عمي عبد القادر رشيد، الذي اراد، في وقت مبكر، ان يغتني من نشر هذه الترجمة، فإذا بالنسخ تتكوم دون جدوي في قعر الصندوق القديم. خلال أيام الصيف الحارة، في كل ظهيرة، كنا نفترش ارض السرادب الحجرية، محاطين بظلمته الخفيفة ومستسلمين لهوائه الرطب اليارد، فيمنحنا ساعات من النوم الطيب الذي لا يعوض.فاذا ما خرجنا عصرا منه، واجهنا حوش الدار وهوساحة واسعة تتوسطها حديقة صغيرة عجفاء تضم زيتونة وشجرة برتقال وشجرة رمان. كانت هذه البقعة الخضراء، مملكتي الخاصة ومحل استراحتي وملعبي ومجال حريتي.كنت أتجول في مساحتها الضيقة كأني أسير منطلقا في أنحاء غابات "الأمازون" وأتسلق أشجارها الأليفة مثلما كنت اري "طرزان" يتلاعب فوق أغصان أشجاره العملاقة. ولم تهمني السقطات الكثيرة التي عانيتها من جراء قفزات حمقاء كنت أقوم بها بين الأشجار.كنت أحشر طرف دشداشتي في لباسي، غير مهتم بمن يراقبني من أهل الدار؛ وكنت على الدوام، العب بمفردي دون صوت اوضجة، الا حين يتعين علي وأنا متلبس شخصية طرزان، ان انادي اصدقائي الفيلة لنجدتي في معركة مع الأسود؛ حينذاك ترتفع من الحديقة عاليا وبشكل متكرر، نداءات طرزانية سيئة التقليد تدفع والدتي الي الصراخ بي طالبة مني ان اكف عن الصياح والا انشق بلعومي.كانت شجرة الرمان هي حبيبتي الأثيرة الصامتة. كنت أمسك بثمارها الخضر غير الناضجة وأمسحها برقة بطرف دشداشتي غير مبال بما يلحق القماش من قذارة. ولكم عانيت من حزن طفولي شديد بعدما انهارت حيطان الدار وتحول بيتي الي ركام من الحجارة والتراب يحيط بحديقتي الصغيرة الخضراء وبتلك الرمانة الجميلة التي سرقوها مني. كان أهل البيت، في سنوات الطفولة القصيرة تلك، يرتقون الي الطابق الأول بواسطة الدرج المظلم علي الجهة الغربية من الحوش، وكنت أصعد الى الطابق نفسه بتسلق شبابيك السرداب الكبيرة. كانت تلك لعبة عبثية جميلة أمارسها عدة مرات في اليوم. أمسك بحديد الشباك وارفع نفسي الي الأعلي رويدا رويدا حتي اصل الي المحجر الخشبي المتآكل فأقفز فوقه الي الطارمة الواسعة بكل سهولة. لم يكن في الأمر خطورة كبيرة، ولكن.. ان اسير متوازنا فوق المحجر الخشبي الضيق كأني بهلوان في سيرك، فذلك ماكان خرقا لكل
ذكرياتي
نشر في: 12 مايو, 2010: 04:19 م