TOP

جريدة المدى > ملحق اوراق > افاق: الروائي والحس التاريخي

افاق: الروائي والحس التاريخي

نشر في: 15 مايو, 2010: 04:13 م

سعد محمد رحيم تنطوي كل رواية جيدة على رؤية ما إلى العالم، أو فلسفة مضمرة.. رؤية أو فلسفة أساسها الوعي التاريخي والحس التاريخي. فالرواية تقترح تاريخاً مناظراً، بديلاً.. تاريخاً يتخطى اشتراطات تدوين الفعل التاريخي العياني/ المادي، في ظاهره، ليطل على الخريطة السرية للوجود الإنساني في لحظة فارقة من لحظات التاريخ. ومن غير حس تاريخي عميق سيخفق أي روائي في كتابة رواية لافتة،
 وذات قيمة فنية. والروايات الرديئة هي تلك التي تؤشر ضعف الحس التاريخي عند كتّابها.   لا أتكلم في هذا المقام عن الرواية التاريخية، عن تلك الروايات التي تتخذ من حوادث التاريخ المعروفة أو السرية موضوعات لها. بل عن الرواية عموماً التي لابد أن تكون متشربة برحيق التاريخ، مفعمة بعبقه، ومثقلة بروحه، حتى وإن صنّفناها في خانة الفنطازيا واللامعقول. والرواية التي تقترب من الأسطورة والفنطازيا واللامعقول لا يعني أنها تبتعد بالقدر نفسه عن الواقع والتاريخ. وكان روجيه غارودي من منظور فلسفته في الأدب والمتمحورة حول؛ الواقعية بلا ضفاف، قد استشف في عالم فرانز كافكا حقيقة عالمنا الذي نعيشه. ليكون العالم الذي خبره بعمق وقسوة هو ذاته العالم الذي بناه في رواياته؛ ( المسخ، القصر، المحاكمة، أمريكا، الخ.. ). نستطيع قول الشيء عينه عن رواية ( العمى ) لخوزيه ساراماغو ( مثالاً ) والتي تكشف عن المأزق الأخلاقي للسلوك البشري حين يوضع البشر أمام اختبار صعب. فساراماغو حين يورِّط مجتمعاً كاملاً في حالة من العمى الفيزيقي، في روايته، إنما ينزع القناع البراق عن  وجه حضارتنا فيبين العمى الأخلاقي لنسبة واسعة من البشر في شكل تشوّهات في السلوك؛ الأنانية، الميل إلى العنف والفوضى، القسوة، فقدان الكرامة، الخ.   إن أعمال غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي، في سبيل المثال، ما كان لها أن تكون بهذه الأهمية، وعلى هذه الدرجة من الإتقان الفني، لو لم يكن الكاتبان على دراية كافية بتاريخ مجتمعهما، وموقع هذا المجتمع الحضاري والسياسي في العالم. فعلى الروائي أن يأخذ على عاتقه كلاً من الوجود الإنساني وتاريخه وهو يشرع بكتابة روايته. مرة أخرى أنوّه بأنني لا أتحدث عن الرواية التاريخية بتوصيف جورج لوكاش، أو غيره. بل عن الرواية المعجونة بخميرة التاريخ.. الرواية الصادرة عن وعي وحس تاريخيين ناضجين ورهيفين.   في الرواية ننظر إلى الوجه الخفي من التاريخ.. الوجه الآخر، المهمل والمقصي. وأكاد أقول الوجه الأكثر حقيقية. ولهذا بمستطاعنا التأكيد بأن التكرلي في "الرجع البعيد" قد قال وكشف ما لم يقله ويكشفه مؤرخو حقبة الستينيات العراقية كلهم.   وفي رواية "الوليمة العارية" يلتقط علي بدر بذكاء عتبة تاريخية مهمة تتمثل بلحظة سقوط بغداد على يد الإنكليز في العام 1917 ومغادرة الجيش العثماني المدينة بعد هزيمتها المنكرة.وقد حاول الروائي تصوير تلك اللحظة على خلفية حراك اجتماعي وثقافي/ تاريخي مضطرب وحاسم، وإن شوّشت رؤيته أحياناً النظّارة الاستشراقية التي يستعيرها.     والسؤال الذي يجب أن يقلقنا اليوم ويحفزنا كذلك هو؛ كيف نقدّم أنفسنا بعدِّنا أمة وتاريخاً ومشروعاً إنسانياً إلى العالم من خلال الرواية؟.    إن ازدهار الرواية في أي مجتمع يتطلب توافر شروط ثقافية واجتماعية، وحتى سياسية، ممهدة. غير أن وعياً ناضجاً وحساً تاريخياً حاداً وصادقاً وموهبة خلاّقة يمكن أن تنتج عنه رواية كبيرة مستشرفة ؛ رواية رؤيوية تسبق عصرها. وهذا هو ما حصل، على وجه التحديد، في روسيا القيصرية، في القرن التاسع عشر، لمّا استطاعت روايات تولستوي وغوغول ودستويفسكي وترجنيف وغيرهم من أدباء روسيا العظام عكس روح الأمة الروسية وتطلعها.. هنا لن يكون الروائي فناناً وحسب، بل صوتاً لضمير الإنسانية وروح التاريخ.    تتحرش الرواية لا بالتاريخ وحده بل بالمدوّنة التاريخية المتداولة أيضاً. فبالمخيلة وقد غدت أصدق إنباءً من التدوين التاريخي التقليدي تُنتهك وتُخترق الجلد العقلاني الخشن للمدونة وتوضع موضع التساؤل والشك.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

دستويفسكي جوهر الروح الإنسانية

دستويفسكي جوهر الروح الإنسانية

لكن الفكرة المركزية التي سيطرت على دستويفسكي كانت الله والذي تبحث عنه شخصياته دائما من خلال الأخطاء المؤلمة والإذلال.يقول دستويفسكي على لسان الأمير فالكوفسكي في رواية مذلون مهانون (.... لكنك شاعر ,وأنا إنسان فان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram