عادل صادقليس كل ما يتعلق بالعرب، بطبيعة الحال، سيء و متخلف و مقترن بالعنف و العدوان، سواء في الماضي أو الحاضر، كما توحي به الممارسات الهمجية للجماعات الارهابية المحسوبة على العرب و المسلمين في عالمنا اليوم. فهناك، بالتأكيد، جوانب إيجابية و مشرقة و إنسانية في حياتهم اليومية و الثقافية،
 و يعرف هذا جيداً المستشرقون المنصفون، و منهم المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه ( 1913 ــ 1999 )، التي أودعت معلوماتها التاريخية و انطباعاتها بهذا الشأن في كتابها الممتع " شمس العرب تسطع على الغرب ". و قد صدرت الطبعة الأولى منه باللغة العربية في عام 1964، و كان من ترجمة فاروق بيضون و كمال دسوقي. و يمكننا القول إنه لا شيء يدلل على حضارية أي بلد أو أمة مثلما يفعل الاهتمام بالصحة العامة. فكل شيءٍ تقريباً يمكن التظاهر به أو شراؤه إلا الاهتمام الثابت و المنظم بصحة الناس جميعاً، سواء كانوا متواضعي الحال أم من علية القوم، مواطنين أم أجانبَ. و لنتأمل الآن في هذه الرسالة القديمة التي ذكرها كاتب عربي عاش قبل ألف عام و أوردتها المستشرقة هونكه في كتابها الآنف الذكر، قبل أن نستأنف التحدث عنه، و لننتبه جيداً.يقول كاتب الرسالة من مستشفى كان يرقد فيه :" أبتي الحبيب، تسألني إن كنتُ بحاجةٍ إلى نقود! فأُخبرك بأني عندما أخرج من المستشفى، سأحصل على لباسٍ جديد و خمس قطع ذهبية حتى لا أضطرّ إلى العمل حالَ خروجي مباشرةً، فلستُ بحاجةٍ إذن إلى أن تبيعَ بعض ماشيتك! و لكن عليك بالاسراع في المجيء إذا أردتَ أن تلقاني هنا. و عندما تدخل من البُوابة الكبيرة، تعبر القاعة الخارجية الجنوبية، و هي مركز الاسعافات الأولية حيث أخذوني بعد سقوطي، و حيث يذهب كلُّ مريض أولَ ما يذهب كي يعاينه الأطباء المساعدون و طلاّب الطب. و مَن لا يحتاج منهم إلى معالجةٍ دائمة في المستشفى تُعطى له وصفته فيحصل بموجبها على الدواء من صيدلية الدار.و أما أنا، فلقد سجّلوا اسمي هناك بعد المعاينة و عرضوني على رئيس الأطباء. ثم حملني ممرّض إلى قسم الرجال، فحمّمني حمّاماً ساخناً و ألبسني ثياباً نظيفة من المستشفى. و حينما تصل أنتَ ترى إلى يساركَ مكتبة ضخمة و قاعة كبيرة حيث يحاضر الرئيس في الطلاّب. و إذا ما نظرتَ وراءك يقع نظركَ على ممر يؤدي إلى قسم النساء. و لذلك عليك أن تظلّ سائراً نحو اليمين ، فتمر بالقسم الداخلي و القسم الجراحي مروراً عابراً ... فإذا سمعتَ موسيقى أو غناءً ينبعثان من قاعةٍ ما، فادخلها و انظر بداخلها، فلربّما كنتُ أنا هناك في قاعة النُقَّه حبث تشنّف آذاننا الموسيقى الجميلة و نُمضي الوقتَ بالمطالعة المفيدة ... و اليومَ صباحاً جاء كالعادة رئيس الأطباء مع رهطٍ كبير من معاونيه. و لمّا فحصني، أملى على طبيب القسم شيئاً لم أفهمه. و بعد ذهابه أوضح لي الطبيب أنه بإمكاني النهوض صباحاً و بوسعي الخروج قريباً من المستشفى صحيح الجسم معافى. و إني و اللهِ لكارهٌ هذا الأمر! فكل شيءٍ جميل هنا للغاية و نظيف جداً : الأَسرّة وثيرة و أغطيتها من الدِمقس الأبيض، و المُلاء بغاية النعومة و البياض كالحرير، و في كل غرفة من غرف المستشفى تجد الماء جارياً فيها على أشهى ما يكون. و في الليالي القارسة تُدفَّأ كل الغرف. و أما الطعام فحدّث عنه و لا حَرَج!! فهناك الدجاج أو لحم الماشية يُقدَّم يومياً لكل مَن بوسعه أن يهضمه!عزيزي القاريء، لا بدّ و أن أموراً كثيرة في هذه الرسالة المكتوبة قبل ألف عام قد أثارت انتباهك ... مستشفى يمنح مرضاه ثياباً جديدة و نقوداً عندما يتماثلون للشفاء حتى لا يضطرون للعمل حالَ خروجهم مباشرةً؛ تحميم المرضى حمّاماً ساخناً و إلباسهم ملابس نظيفة؛ مكتبة ضخمة للمرضى و قاعة كبيرة يحاضر فيها رئيس الأطباء في طلابه بالمستشفى؛ موسيقى و غناء في قسم النقاهة و مرضى يكرهون الخروج من المستشفى، و كيف لا  و هي توفر لهم الدفء و الأفرشة النظيفة و الدجاج المحمَّر و لحم الماشية الذي يقدَّم يومياً لكل مَن باستطاعته أن يهضمه!و عليك هنا أن تعرف، عزيزي القاريء، قبل أن تذهب بك الظنون كلَّ مذهب أن ما ورد في هذه الرسالة هو فعلاً انطباعات مريضٍ منبهر بالمستشفى الذي رقد فيه للعلاج، و ليس قصة خيالية، أو حديثاً عن مستشفى .. في الجنّة!أما المريض المنبهر هذا، فهو من الفرَنجة، و أما المستشفى فهو أحد تلك المستشفيات التي كانت منتشرة في كل المدن العربية الكبيرة قبل ألف عام ... و لك أن تصدّق أو لا تصدّق! فالأمر غريب و محيَِر حقاً و ربما مستحيل مقارنةً بحال مستشفياتنا المشهورة بالاستغلال و الفساد و التعامل المهين اليوم، بل و حتى بحال المستشفيات في الغرب المتقدّم نفسه!