لطفية الدليميالحرية معضلتنا وضالتنا وحلمنا التائه ومستحيلنا الذي يتعذّر علينا الإمساك به، كم كتبنا عنها وكم تغنينا بها، وكم قدّمنا من التضحيات رجاء قطف ثمرتها المحرّمة؟ وكم كانت -وستبقى- شعارات السياسيين في المظاهرات والبيانات والتصريحات مزدحمة بكلمة الحرية؟ وكم رأيناهم في اللحظات التاريخية يهتفون بأصوات مبحوحة باسمها أو يبشرون بها،
باعتبارها الشرط الوحيد للسعادة الإنسانية لكونها الخاتم السحري أو كلمة السر التي تفتح لنا -إذا ما نطقت مغاليق المستحيل وشرفات الفراديس وطرقات الخلاص. أذكر أن الكبار كانوا يشركوننا ونحن صغار -ما بين السادسة والسابعة- في المظاهرات، ويزجون بطفولتنا الغضة في مواقف لا ندرك كنهها ولا مؤداها. ونحن في سن اللعب والتخيل، كنا نُستخدم كطعوم جميلة مزينة بالشرائط والثياب المكشكشة، وحين تتحرك المظاهرات يثقلون أيدينا الصغيرة بأطواق الزهور واللافتات الملونة التي تسطع فيها كلمة الحرية (عرفت ذلك من الصور التي نحتفظ بها)، كنا لا نفهم معنى تلك المفردة ولا سواها من المفردات التي كانوا يرددونها في المظاهرات، بل كنا نحن الصغيرات مشغولات بشرائطنا وضفائرنا وأحزمة فساتيننا وتعب أذرعنا النحيلة التي ترفع أطواق الزهور، كنا نبكي وهم يصادرون حرية طفولتنا، ونرجو العودة إلى البيت وحضن الأم واللعب مع أقراننا، كان درس الحرية الأول لنا مضادا للحرية، وكان قيدا أرهق الطفولة بأوهام وأيديولوجيات الكبار ذات الحدود المتصلبة التي تقتل كل بارقة لتجليات الحرية في فضاء الطفولة الرحب. يرى الكاتب الأرجنتيني «أرنستو ساباتو» أن القرن العشرين فصل نهائيا بين الحرية والتقدم، وزاد من مرارة القول المشهور الذي أطلقه «نيتشة»: إن التقدم قد يكون تقهقريا والتقهقر تقدميا.. ويضيف «ساباتو» أن الشك المبرر بالحرية بصيغتها الغربية، دفع إلى التشكيك بالحرية نفسها، وفي الأقل أرجأ تحقيقها إلى أمد غير معروف أيضا، فالحرية لا تهبط من السماء، بل ينبغي أن تشيّد من الصغائر اليومية وحتى المضحكة وغير السليمة منها، والتي بفضلها يتميز الإنسان ولا يضيع في الحشد.. الحرية لا تهبط أبدا من السماوات كالمطر، ولا تُقطف من أشجار التوت والبرتقال، وحياتنا العربية -التي بقيت في عوَز مزمن للحرية- لن تستقيم لها صيغة إنسانية ما لم تحظ بلمسات شافية من أصابع الحرية، وتعترف بضرورة الحرية لجميع الكائنات في سعيها اليومي المعتاد في أرض البشر. فكل الأفعال اليومية والصغائر، وحتى الأخطاء التي تُرتكب عفو خاطر الكائن الإنساني، الأعمال المثيرة للضحك وارتداء الملابس المرحة وقص الشعر أو إطالته، وإطلاق الصوت بالغناء والتعبير عن الغضب بالصراخ، وقول ما نؤمن به دونما خوف أو رهبة والبوح بما نحب وما نكره، حرية اختيار الأشخاص الذين يمكننا التواصل معهم، وكل تلك التفاصيل التي لا يمكن حصرها من الممارسات الإنسانية البسيطة -لكنها الأساسية- في التعبير دون إكراه، دونما خضوع لسلطة متعسفة في المجتمع تحول بيننا وبين التمتع بحرية الفعل والإبداع، لنملك إرادة الحرية التي قد تعيقها هيمنة إرادة القوة وعنف المهيمنين.. من الحرية منشأ الإنسان وإليها مرجعه كما يقول «برديائيف»، ومن هذه الحقيقة يبقى الإنسان في اضطراب وأسى عند حرمانه منها، وعجزه عن امتلاك إرادته الحرة.. تنطوي معظم الأعمال الفلسفية والإبداعية والملاحم الكبرى التي أبدعها العقل البشري على فكرة الحرية والنزوع إليها، ويكمن سر العالم وبقاؤه في صراعه من أجل الحرية، وحلمه بها كظهير مساند للحياة المبدعة المتجددة، من جهة أخرى تنبئنا الملاحم والتراجيديات الشهيرة أن الحرية هي مصدر المأساة في التاريخ البشري، فمن أجلها يضحي المرء ويرتقي في مدارج التفاني، حتى أن بعض الفلاسفة عدّ الحرية الأمر المقدس الذي ينبغي الالتفات اليه، باعتباره المُنجي من انحطاط البشرية، برغم أن السعي إلى الحرية يؤدي غالبا إلى الخسائر المادية والآلام والعوز والعزلة عن سياق الحياة المادية المتحكمة بالمجتمعات الحديثة، وخيانة معنى الحرية في نفوسنا ومواقفنا قد تبعد عنا الألم وتنجينا من العوز الى حين، لكنها تثقل ضمائرنا وأرواحنا، وقد يتنازل الناس عن الحرية كما قال دوستويفسكي (لتخفيف أعبائهم)، فالحرية مطلب صعب، والحصول عليه ليس كالحصول على المطرالذي يهطل علينا من أعالي السماء.
قناديل: الحرية لا تهبط من السماء
نشر في: 15 مايو, 2010: 06:03 م