خالص عزميفي نهاية عام 1946 باشرت شركة هولو البريطانية بانشاء جسر الصرافية الحديدي الذي يربط ما بين العطيفية بالقرب من جامع براثا في الكرخ ؛ والوزيرية في الرصافة ؛ و حينما كان والدي يأخذ الاسرة معه الى (الجرداغ ) الذي ابتناه على ساحل دجلة في الكرخ
( بالقرب من مقهى البيروتي حاليا) لقضاء عطلة نهاية الاسبوع كنت اشاهد كيف ان المهندسين والعمال يواصلون الليل والنهار من اجل انجازه في اقرب وقت ممكن ؛ ولكن وثبة الشعب الكبرى ضد معاهدة بورتسموث والمواجهات الدامية ما بين المتظاهرين وقوات الامن والتي ذهب ضحيتها عدد من خيرة شباب النضال البطولي ؛عرقلت خطط التشييد لفترة طويلة ؛ حتى عاودت الهيئات العاملة فيه استكماله وجرى افتتاحه على عهد حكومة جميل المدفعي في نهاية عام 1952؛ حيث شاهد الجمهور وأول مرة القطار العراقي الذي كان يزين جانبيه شعار ( س ح ح ع ) ــ سكك حديد الحكومة العراقية ــ ويرفع على هامته علم البلاد ؛ وهو يطوي فضآءات الجسرالسبعة ؛ مارا من على شرفته العالية عابرا نهر دجلة بمسافة 45 مترا من ضفته الشرقية حتى ضفته الغربية . لقد غطت الصحافة هذا الحدث الهام بتفاصيل وصور دقيقة ؛ لا يكاد القاريء يطلع عليها الا ويتصور نفسه أحد مشاهدي ذلك الافتتاح التأريخي .حينما كان الجسر في طور الانشاء عام 1950 دخلت ومجموعة من الاصدقاء المقربين كلية الحقوق التي كانت تتوسط الزقاق الذي يربط شارع الاعظمية بشارع الوزيرية؛ مواجهة بذلك مقتربات الجسر. لم يكن هذا القائم على قواعد صلبة ؛مجرد معبر قطار او سيارات او مارة وحسب ؛ بل كا ن شرفة منفتحة على فضاء بعيد تجري من تحته مياه دجلة الخير ؛ ومما زاده بهاءا ومتعة اتكاؤه على ارض عريضة تربط ما بين الشارعين ؛ حولتها امانة العاصمة الى حديقة يانعة سندسية تنام على حواشيها الوان من زهور المواسم المتعانقة مع الاوراد الطبيعية البرية التي كانت تستلقي على اكتاف غرين السواقي ؛ تحيطها برعايتها شجيرات الدفلى الزاهية بالوانها الجذابة .ومع ان لكلية الحقوق ؛ حديقة واسعة تزين واجهتها ؛ الا ان اغلب الطالبات والطلاب ؛ كانوا يفضلون حدائق الجسر للتمتع بفترات الاستراحة ما بين الدروس ؛ ولو استطاعت شجيرات وحشائش تلك الحدائق من التحدث ؛ لمنحتنا اسرارا رومانسية لعشق هامت به قلوب ؛ وغردت لمد اواصره عنادل الحب . وها انذا بعد كل تلك السنوات الغاربة ؛ استطيع ان استجلب صور أولئك الزملاء وهم يتخذون من شجر صفصاف تلك الفراديس ملاذا للمناجاة في احاديث كأنها قطع سكر(القند ) وهي تذوب على الشفاه . ويا طالما صاحبتها تغريدات غنائية من هنا وهناك كان اصحابها يبشرون بمطربين واعدين لو سنحت لهم الفرص بذلك ؛ او بقصائد شعرية في كل بيت منها انفاس ابن ابي ربيعة ؛ او شوقي ؛ او أمين نخلة ؛ او حافظ جميل ؛ او غيرهم من اوتار اللوعة و الهيام لم تكن تلك الهمسات الشعرية او الوصلات الغنائية العفوية هي ابرز ما اتذكر وحسب ؛ بل كا ن للنقاش السياسي ما بين الطلاب على اختلاف معتقداتهم او انتماءاتهم دوره البارز في تحديد مواقفهم من كل ما كان يحدث في العراق او البلاد العربية و تتداوله الاخبار ؛ ولم يكن ذلك النقاش اليومي مقتصرا على طلبة الحقوق ؛ بل كان يشارك فيه عدد من موفدي وزوار المعاهد والكليات الاخرى ؛ كالاداب ؛ ودار المعلمين العالية ؛ والطب ؛ والشريعة ؛ والصيدلة ومعهد الفنون الجميلة ؛ و الهندسة ؛ بل حتى طلاب الثانويات في بعض الاحيان .ويا طالما شهد مقهى الحقوق المجاور للكلية والجسر ؛ قرارات حاسمة في دعم الحركة الوطنية . ومما لاانساه ايضا ؛ ان حدائق هذا الجسر ؛ كانت تزدحم ايام الامتحانات بعدد كبير من الزملاء الذين كانو يتخذون منها مواقع مريحة لمراجعة الكتب القانونية ؛ او للتداول فيما كان يتوقع البعض من اسئلة احتمالية هي ا قرب للخيال منها الى الحقيقة .. لقد كان لكل من هذا وذاك رنينه العذب الذي مازال عالقا حتىالآن في مسمع الذكريات؛ ولعل شبكات حديد ذلك الجسر كاتم الاسرار تحتفظ هي الاخرى بارشيف واسع من حكايا تلك الايام ؛المدججة بالعزم والنضال ؛المتفتحة على حقول من زنابق الحب . في الفترة (1950 ــ 1954 ) التي جاورنا فيها هذاالجسر او كما كان يطلق عليه بعض الطلاب (الجد الحنون) ؛ مرت احداث سجلت صفحاتها كتب التاريخ المعاصر بكثير من التفاصيل ؛ ومن نماذجها انعكاسات ثورة 23 يوليو في مصر على ارهاصات قوى المعارضة المتمثلة ب ( الاحزاب والنقابات والجمعيات المهنية ؛ وتجمعات الطلاب ؛ وتحشدات الطبقة المثقفة الوطنية ) ؛ فعلى سبيل المثال ؛ كان لشرارة ازمة طلبة كلية الصيدلة ضد القانون التعسفي الذي اصدرته وزارة الصحة و
ذكريات خاصة عن الجسر الحديدي
نشر في: 16 مايو, 2010: 04:16 م