محمود عبد الوهاب دينو بوتزاتي 1906- 1972، الروائي الإيطالي، أصدر في مطلع عمله الصحافي، عدداً من الروايات، وعُرفَ روائياً مرموقاً بعد صدور روايته "صحراء التتار"، التي يُعدّها هو "كتاب حياته"، تنوّعت كتابات بوتزاتي: في الرواية والقصة القصيرة والشعر والمسرح. من أبرز موضوعاته: شغفه الشديد بأسرار الطبيعة، وقلقه على مصير الإنسان.
في إحدى قصصه القصيرة، ، يضع بوتزاتي سارد قصته، في حديقة داره، متأملاً سحر الليل وهدوءه، والتماعات ضوء القمر وهي تتساقط على أعالي أشجار حديقته، وتتلصص من بين أوراقها. سارد القصة في بهجته وطمأنينته وتماهيهِ مع جوّ الحديقة وسكونها الليليّ، تعتريه نشوة غامضة لسحر الليل والطبيعة معاً، مسترخياً في مقعده، متلذذاً بما يجري على سطح الحديقة وحدَباتها الترابية، في حين تنطُّ تحت قدميه، من مسامات تربة الحديقة العناكب والديدان والفئران ، في محاربة ومغازلة ودفاع وفرار من بعضها، لتختفي هاربة في أنفاقها وثقوبها. ربما لم أستطع استذكار تفاصيل القصة على حقيقتها، لكنّ موضوعتها لا تبتعد عما ذكرته، ما يعني أنَّ الليل لا يُريكَ إلا وجهه الجميل، ويتستر بمكر على وجهه الآخر."عالم الليل" لمؤلفـَيْه لورس ميلن وزوجته مارجري ميلن، الأستاذين في عدد من الجامعات الأمريكية ، يتناول الكتاب موضوعة الليل أيضاً ، ولكن من جانبها العلمي، على شكل اختبارات متسلسلة، ومشاهدات في الحقول والغابات، يستعين المؤلفان بالمصباح اليدويّ الكاشف، متمنييّن أن يشاركهما القرّاء دقّة الفهم التي سنحت لهما به مخلوقات الليل. ومن الطريف أنّ المؤلفـَيْن استبدلا عنوانا مثيراً سمّياه "المُسهمون في هذا الكتاب"، بدلاً من "فهرست الموضوعات"، وقد أدرجَا تحت ذلك العنوان ما يتعلق بالليل من شواطئ المياه وفي الغابة والمسافرين ليلا، والسبل المائية المظلمة وليل البحر القديم والأدغال في ضوء القمر وليل الصحراء ، وكأنّ هذه الموضوعات مخلوقات حيّة عاقلة أسهمت، من جانبها، في رسم أجواء الليل وفضاءاته. "عالمُ الليل" رحلة ممتعة في فضاء فسيح ومجهول ، طالما كان الإنسان سجين نهاره، ساعياً وراء أشباح الليل، طيوراً وزواحف وأسماكاً، تتراءى من بعيد على شواطئ البحار وحافات الأنهار، تلك الأشباح التي تصل أصواتها أصداءً إلينا. يكتشف المؤلفان في أعماق الليل ، ما كتبه بوتزاتي في قصته القصيرة عن أسرار الليل الدفينة، والمفارِقة بين سطح ٍ ثريّ في سحره، وأعماق "ما تحته" ملأى بالاقتتال والصراع. الظُلمة تبهتُ المعالم المألوفة، وتزحف على الأصقاع عتمة تمتدّ وتتسع وتنبسط كأنها الوسادة فوق عالمنا. يتسلى ساكن الغابة مع من يزوره من أصدقائه، قاطني المدينة، بأن يتجوّل معهم بعيدا عن منزله، يدعهم يقفون قليلا ليُشعرهم بالاطمئنان والسكون، ثم يُطلق بندقيته فجأة، ليُسمِعْ ضيوفه عويلاً وحشياً لآلاف الأصوات تتجاوب أصداؤها في السهول، مثل عجيج عميق الصوت إلى زعيق، يصدر هذا الضجيج من مخلوقات الغابة التي تأوي في الليل لتأكل طعامها بهدوء.في زيارة قريبة له إلى البصرة، بعد مهرجان المربد بأسابيع، أهداني الصديق الشاعر ياسين طه حافظ، في جلسة خاصة، رواية "ليل- Night" باللغة الانكليزية، للروائية الإيرلندية "أيدنا أوبرين"، قال عن الرواية "جون أبدايك" : إنها كتاب رائع وجميل. تسرد الشخصية المركزية للرواية خلال ليلة واحدة ما كانت تقوم به في أثنائها ، مسترجعةً أفكارها ومشاعرها. استعرض الصديق الشاعر ياسين الرواية بمسحة شعرية مُحفـِّزة، كنت أُبصرُ الإعجاب من خلال قسماته وابتساماته، كأنه أحد شخصيات الرواية، وكأنها ليلتنا جميعاًُ، ومن تلك الليلة أصبحتُ أسيرَ الليل، أتتبع عتماته في الزوايا، وفي حافات الأمكنة، لقد أصبح الليل هو الزمان الوحيد، ولم يعُد غيره إلا زماناً تابعاً له.لو لم يكن الليل مخادعاً، لما كانت شهرزاد تروي حكاياتها فيه، ولما انجذب شهريار إليها مُصغياً. الليل أفضى على حكايات شهرزاد جوَّاً سحرياً، عَمِلَ على أن يستهوي شهريار، حتى إذا ما أدرك شهرزاد الصباح، سكتت عن الكلام المباح. النهار يعرّي الليل عن سحره الخادع الجميل.للفرنسـيين، هذا القول الطريف عن مكر الليل ودهائه: في الليل، لا تخطبْ امرأة، ولا تشترِ قماشاً.
اوراق..الـلــيـــل: ذلك الماكر الجميل
نشر في: 18 مايو, 2010: 06:00 م