نبيل العطية كان ذلك في منتصف السبعينيات، وربما بعد هذا التاريخ بقليل على ما اذكر، حين اقترح رئيس هيأة تحرير مجلة "رسالة النقل" الصادرة عن وزارة النقل والمواصلات آنذاك، والتي كنت عضواً في هيأة تحريرها ضرورة تطوير هذه المجلة الفصلية والمتخصصة بشؤون النقل مادة، واخراجاً.
وكان "استكتاب" أكابر الكتاب، من ذوي المكانة الرفيعة وتوسيع مساهمتهم فيها اول مفردة لتحقيق تطورها المنشود، وجعلها اكثر حيوية، واوسع تداولاً بين جمهورها، على الرغم من انها لاتباع في المكتبات ويُكتفى ببيعها على منتسبي الوزارة بغية تثقيفهم بقضايا النقل والمواصلات وزيادة معارفهم في هذا الحقل المهم من حقول الاقتصاد الوطني. ويتعين عليَّ ان اقول إن المجلة تعاني من "اعراض" جل الموظفين، وندرة قرائها الحقيقيين، بسبب "جفاف مادتها" وتقليدية موضوعاتها، وضعف اخراجها الفني، بل اكاد اقول انها تفرض فرضاً على الموظفين المساكين، وتلك ضريبة ثقيلة، كما هو واضح! كان اسم الشيخ الجليل المرحوم جلال الحنفي البغدادي من اوائل ما طرح من اسماء لتحقيق هذا الهدف إذ كان كاتباً موسوعياً، اديباً، لغوياً، خطيباً، شاعراً، معنياً بالتراث البغدادي، عارفاً بتاريخ محلات بغداد القديمة وأصول مسمياتها، هذا الى جانب ما يمتلكه من رصيد علمي في حقول: التجويد، والاصوات، والعروض، والموسيقى والمقام لذلك لقي الاقتراح باختياره ترحيب اعضاء هيأة التحرير كافة، ودون اعتراض. في صباح يوم نيساني جميل توجهت رفقة عضو هيأة التحرير، زميلي الصحفي والمترجم السيد صالح مزيد الدبوس الى محلة "سوق الغزل" والى "جامع الخلفاء" تحديداً لزيارة الشيخ الحنفي، امام وخطيب هذا الجامع دون موعد سابق معه، فالفيناه في الشارع الفرعي الموازي للجامع من جهة باب المعظم. لم اكن التقيت به شخصياً، غير ان صورته تلفازياً كانت شائعة، بسبب نشاطه الثقافي العام بدا الحنفي لي رجلاً متوسط القامة، مخيفاً، اسمر اللون، يضع عمامة صغيرة على رأسه، و"عيينات" على وجهه.ولعل من طريف ما اذكر انه كان يتحدث باللغة الصينية مع طفل صغير لا يتجاوز عمره سبع سنوات. انه ابني! كذا قال، واردف: لقد ولد في الصين، وعند عودتي الى العراق لم يكن يعرف شيئاً من العربية، الا انه، بسبب اختلاطه مع اترابه من سكنة هذه المحلة، وولعه بلعب "الدعابل" و"الكعاب" بدأ يفقد الكثير من مفردات اللغة الصينية، وحرصاً مني على عدم نسيانه الصينية، فانا اتحدث معه بها لكي لا ينساها ان تعلم أية لغة ثروة، ولا اريد له ان يُضيع هذه الثروة.قدمت نفسي، وزميلي اليه، وعندما علم اني شقيق الدكتور جليل العطية –وكان صديقه (هش وبش). كان شقيقي استاجر شقته القريبة من الجامع، وقد حجز في احدى غرفها غرفة خاصة باثاثه ضماناً لحصوله عليها بعد عودته من الصين مُوفداً اليها، استاذاً لمادة العربية في جامعة بكين ادخلنا الشيخ الحنفي الى الجامع عبر بابه الرئيسة وصعدنا سلماً يفضي الى الطابق العلوي ذاهبين مباشرة الى مكتبه البسيط في مظهره، توسطت المكتب منضدة صغيرة عليها آلة كاتبة فيما كانت تجاورها منضدة اكبر وضعت عليها مجموعة من الكتب. بعد استراحة قصيرة، فاتحناه بنية مجلة "رسالة النقل" استكتابه بموضوع خاص بالنقل في مدينة بغداد تحديداً، وذكرياته الشخصية عن وسائل النقل قديماً، وهل لديه مقترحات لتطوير النقل في هذه العاصمة التاريخية العريقة؟ وقد رحب الرجل، ووعد خيراً.بعد اسبوع زرنا الحنفي، وكان عند وعده، دقيقاً، ملتزماً، فقد انجز مقاله سارداً فيه ذكريات لطيفة عن النقل وتاريخه ببغداد، ووسائطه. وكان حقاُ يعكس روح الشيخ، ورصانة اسلوبه، وسعة معرفته بالحياة البغدادية، التي كان النقل يُشكل جانباً مهماً منها كان المقال فولكلوري الطابع، شعبي التوجه، وكان لعربات النقل المجرورة بالاحصنة مما يسمى "الربلات" والازقة الفرعية، والطرق الرئيسة، والمحلات الشعبية، واسمائها وصف بارع يلمسه القارئ. كُنا –انا وزميلي- دخلنا الى الشيخ مباشرة وصعدنا السلم الى غرفته العلوية، ولاقل الى "مُعتكفه العلمي" كانت الضربات على الالة الكاتبة تصل الى مسامعنا واضحة على الرغم من انها تجد منافسة شديدة من اصوات السيارات وهتافات الباعة في الشارع العام. كان الحنفي مستغرقاً في استنساخ مادة كتابه "العروض" تهذيبه، واعادة تدوينه رقم هذا الكتاب كان الثلاثين في تسلسل انتاجاته، كما اعلمنا بذلك. والحق انه كتاب مهم وضع فيه خطة لمعالجة القيود الصعبة التي طوقت "اعنق" علم العروض" باقتراحه الغاء جمهرة كبيرة من التعليلات، التي لا قيمة لها في الواقع التطبيقي لاوزان الشعر وتفاعيله، كما قال: وقد صدر سنة 1978 عن وزارة الاوقاف. كانت الزيارة هذه المرة اقصر من سابقتها ومما تخللها سؤاله عن "المشروعات الثقافية" لشقيقي المرحوم الدكتور خليل ابراهيم العطية الذي كان صديقه ايضاً فاجبته انه يعكف على تأليف كتاب يتناول فيه علم الصوت عند العرب وجهودهم في هذا المضمار عنوانه "في البحث الصوتي عند
زيارة إلى الشيخ جلال الحنفي
نشر في: 19 مايو, 2010: 04:17 م